يبحث كتاب ”اجتماعي“ أو Social حاجة الإنسان للارتباط بغيره والتعامل معهم والتواصل معهم، يكشف حقيقة أنّ حاجتنا للاجتماع هي حاجة أساسيّة وبدائيّة أكثر حتى من حاجتنا للطعام والشراب، أساسيّة لعيشنا لدرجة أنّ الدماغ البشري يقضي وقت فراغه في التفكير في المجتمع من حوله. ويطرح الكتاب عدة أفكار ونظريّات مع الأبحاث التي أدّت إلى هذه النظريّات بشكل علمي سلسٍ وجميل. إذا لم تكن لديك خلفية طبيّة جيّدة فقد يكون من الصعب عليك أن تقرأ الكتاب بسرعة وبتركيز مستمر، لأنّك ستقرأ الكثير من الأسماء العلميّة لمناطق الدماغ والتي قد تجعل من قراءة هذا الكتاب أمراً صعبًا، ولكن صدّقني أن الكتاب يستحق وقتك وأكثر. وقد قام الكاتب بجهدٍ كبير ليوصل المعلومة دون أن يكبّدك عناء البحث في المصطلحات الطبيّة.
ينقسم الكتاب إلى خمسة أقسام وهي:
- البدايات، من نحن؟ وماذا يفعل الدماغ في وقت فراغه؟
- الاتصال، ما علاقة تحطيم قلب شخص ما بكسرك لقدمه؟ وما علاقة الإنصاف بالشكولاته؟
- قراءة الأفكار، ألعابٌ خفية يلعبها العقل دونما انتباهٍ منا، نقلّد حركات وأفكار غيرنا من غير أن ندري.
- التناغم الاجتماعي، ماذا تعني لنا أفكارنا الخاصة؟ من أين أتت؟ ما مهمة شخصية الفرد؟ كيف يقوم المجتمع ببناء شخصيات أفراده؟
- كيف نستفيد من هذه المعلومات؟ كيف نعيش بشكل أفضل؟ كيف نصبح سعداء؟ كيف نستخدم ما قرأناه في عملنا؟ في تعليمنا؟ في تربيتنا لأطفالنا؟
سأذكر بعض التفاصيل التي أذكرها من كل قسم من هذه الأقسام، وسأورد بعض النقاط التي أعجبتني والاقتباسات من هذا الكتاب، وأتمنّى حقًا أن أستفيد شخصيًا من هذه النقاط وأن تتغير نظرة الجميع لكيفيّة عمل دماغنا في المجتمع الذي نعيش فيه…
البدايات
يروي الكاتب قصة وفاة جدّه، وكيف أن جدّته تغيّرت كثيراً بعد أن توفي زوجها، لم تعد أبداً على طبيعتها، لم يجدوا لمرضها تشخيصًا ولا علاجًا، ولم يعرف أحد ما المشكلة بالتحديد، فمن بعد وفاته وحتى توفيّت هي كانت تبدو وكأنّها خالية من المشاعر والحياة ومليئة باليأس ولم تذق طعم السعادة بعدها أبداً. ويحكي الكاتب أيضًا عن البحث الذي قام به مع زوجته ،التي تشاركه مختبر أبحاثه، أنّ الدماغ يتعامل مع الصدمات العاطفية بطريقة مشابهة جداً لتعامله مع الصدمات الجسدية، فالألم العاطفي يحفّز نفس المناطق التي يحفزّها الألم الجسدي من الدماغ. هذا التطور المدهش والرائع في نفس الوقت يجعل من دماغ البشر (وبعض أفراد رتبة الرئيسيّات) مختلفًا جداً عن أدمغة باقي الكائنات الأخرى.
ولكن…
Given the fact that our brains treat social and physical pain similarly, should we as a society treat social pain differently than we do? We don’t expect someone with a broken leg to “just get over it.” And yet when it comes to the pain of social loss, this is a common response.
إذا أخذنا بعين الاعتبار أن دماغنا يعامل الألم الاجتماعي والألم الجسدي بتشابه، ألا يجب علينا كمجتمع إذن أن نعالج الألم الاجتماعي بطريقة مختلفة عن الطريقة التي نعالجه بها الآن؟ فنحن لا نتوقع من شخصٍ قد كسر ساقه أن ”يتخطى الموضوع فحسب ويحاول نسيانه“. ولكن بالمقابل فإنّ هذا الحل هو الحل الأكثر شيوعًا للألم الاجتماعي وفقد الأحباب.
لربما كنّا بحاجة ماسّة إلى تغيير نظرتنا للألم الاجتماعي، وأن نبدأ بالفعل بالبحث عن طرق بديلة لعلاجه بدلاً من أن ننتظر أن يزول الألم وحده بعد مرور وقت، فغالبًا ما سيترافق زوال الألم الاجتماعي وحده ودون علاج بآفاتٍ نفسية أو اجتماعية أو حتى جسدية للمريض.
دماغنا مبرمج ليلتقط أصغر الإشارات من حولنا، الإشارات التي تساعدنا على البقاء أحياء، فكما أنك تستطيع أن تشعر أن الجو حار، وأنك تريد كأسًا باردًا من الماء، فإن دماغك يستطيع أيضًا أن ينبهك أنّ زوجتك لم تعجب بردّك بسخريةٍ على سؤالها الجاد وأنّك في خطر من أن تؤثر على العلاقة بينكما ولو بشكلٍ مؤقت. الآن وقد ذكرت هذه النقطة لك ستتفكر على الغالب للحظة أنّك لم تعر هذه الناحية أيّ اهتمامٍ من قبل، فقد تساءلت على الأغلب عن كيفية شعور الجسد بالحرارة وكيف تنتقل الإشارات ضمن الأعصاب منطلقةً من النهايات العصبيّة المختصة بالحرارة لتصل إلى دماغك ليقوم دماغك بتحليل الإشارة ويخبرك أنّ الجو حار، ولكنك لم تتساءل كيف له أن يعرف أنك على وشك إغضاب زوجتك والمبيت دون عشاء، أو دون قبلة ما قبل النوم.
كثيراً ما تمرّ بنا أحداث كهذه، ونجد أنفسنا في الحقيقة بارعين في التقاط هذه الإشارات واستخدامها لمصالحنا، فبمجرد رؤيتك لعيني زوجتك وقد اتسعتا فجأة واحمر خدّاها وتحرك حاجباها فسوف تبادر إلى تلطيف الجو أو الاعتذار أو توضيح وجهة نظرك حتى لا يزداد الأمر سوءاً. دماغنا يستطيع تنبيهنا لأدقّ الأشياء حولنا، كل ما قد يهددنا جسدياً، أو يهدد سعادتنا وعلاقاتنا الاجتماعية، وينبهك بنفس المستوى لهذين النوعين من التهديدات.
ولا يقتصر الأمر على التنبيه مما قد يهدد حالتك العامة، وإنما بالطبع لما قد يحسنها، فرؤية قطعة الحلويات يثير شهيتك ويحفزّك لأكلها، وبنفس الوقت رؤية بعض الناس يضحكون سيغير لك من نفسيتك ويحفزك باتجاه الشيء الذي سبب لهم الضحك. في عام ١٩٨٤ وفي مناظرات الرئاسة الأمريكية، أسر المرشح رونالد ريغان قلوب الناس قبل عقولهم، ففاز على نظرائه وأصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، ولكن لم يفز ريغان لأنّه أصلح النظام الضريبي، ولا لأنه وفر فرص عمل أكثر من نظرائه، ولا لأي شيء آخر إلا أنّه أضحك الجماهير وجعلهم يشعرون بمشاعر أفضل حينما يتكلم هو. وفي ذلك العام تابع أكثر من ٧٠ مليون مشاهد في الولايات المتحدة الأمريكية المناظرات على التلفاز، لم يكونوا في نفس الغرفة مع ريغان، ولكن شاهدوه عن بعد، وشاهدوا ردّة فعل من كانوا معه من الجمهور. وكما نعلم فإن إضحاك بعض الناس قد يكون أمراً سهلاً نسبيًا، ولكن إضحاك ٧٠ مليون شخص ليس بالأمر السهل إن لم يكن مستحيلاً أصلاً (إلا لو كنت ربما روان آتكينسون المعروف بمستر بين)، فكيف أثر ريغان في كل هؤلاء الناخبين؟
في دراسة أجراها أحد الباحثين، قام بعرض خطابات ريغان من المناظرات على مجموعة من الناس، وفي جميع الحالات كانت المشاهد على التلفاز، ولكن في بعض الحالات كان الباحث قد اقتطع ردة فعل الجمهور وضحكاتهم من المشاهد، وفي الاختبارات الأخرى ترك ردة فعل الجمهور وضحكاتهم كما هي، وعند سؤاله للناس ضمن التجربة، أي الخطابات أحببت أكثر، كان الجواب دائماً هو الخطابات المليئة بالضحك، وعند سؤال الناس الذين شاهدوا الخطابات المعدّلة، هل كنتم ستصوتون لريغان كانت الإجابة قطعاً لا، بينما أجاب أولئك الذين شاهدوا الجمهور وسمعوا ضحكاتهم بأنهم سيصوتون لريغان. وكانت النتيجة من هذا البحث أن ضحكات الجمهور وتفاعلهم مع خطابات ريغان أدى إلى تغيير مشاعر وأفكار الكثير من الناخبين وقاموا باختياره هو. ربما على نفس المقياس يمكننا القول أن دونالد ترمب فاز لأنه غبي ولأن الناس تداولت المقاطع المضحكة له أكثر من اللازم؟ ربما، لا أدري بالضبط
من أحد أهمّ الاكتشافات في علم الأعصاب الاجتماعي هو أنّ الدماغ البشري وفي وقت فراغه يلجأ للتفكير بالحوادث والعلاقات الاجتماعية، _[شخصيًا وقبل قراءة هذا الكتاب كنت أعتقد أن النساء هم الوحيدون القادرون على القيام بهذه المهمة الشاقة]_، ونقول هنا وقت فراغه تجاوزاً ولكن نقصد عندما لا يكون مشغولاً بالتفكير بأي أمر آخر بشكل طوعي أو غير طوعي. فعند مراقبة بعض المتطوعين ضمن جهاز الرنين المغناطيسي أظهر الدماغ نشاطًا في الأجزاء المختصة بالعلاقات الاجتماعية عندما كان المتطوعون يأخذون استراحةً من حل المسائل الحسابيّة، حتى عندما كانت هذه الاستراحة لا تتجاوز العشر ثوانٍ! لا بدّ إذن من أنّ العلاقات الاجتماعية مهمة جداً للإنسان ولبقائه ولتطوره حتّى تخصص الدماغ ليقوم بحل المسائل ”الاجتماعية“ في أوقات فراغه. فعندما تتوقف عن التفكير في أمرٍ ما سيقوم دماغك بإعادة سرد بعض المواقف التي صادفتها اليوم، وتحليلها اجتماعيًا، وتحليل ردات فعل الأشخاص، وتذكّر العوامل المسببة لردات الفعل تلك، وما التغييرات التي طرأت على وجوههم، ونبرات أصواتهم، وغيرها الكثير، كل ذلك دون أن تتدخل أنت وتطلب من دماغك أن يفكر بها، حتى أنّك لا تملك القدرة على منع دماغك من هذه العملية بدون جراحة لاستئصال الجزء الاجتماعي منه.
هذه القدرة العظيمة للدماغ البشري على تحليل ردات فعل الأفراد الآخرين وأخذها في الحسبان عند اتخاذ القرارات هي قدرة نادرة في الكائنات، ويراها البعض سببًا أساسيًا لهيمنة الإنسان على الكرة الأرضية…
While we tend to think it is our capacity for abstract reasoning that is responsible for Homo sapiens’ dominating the planet, there is increasing evidence that our dominance as a species may be attributable to our ability to think socially. The greatest ideas almost always require teamwork to bring them to fruition; social reasoning is what allows us to build and maintain the social relationships and infrastructure needed for teams to thrive.
فبينما نعتقد عادةً أنّ الإنسان استطاع السيطرة على الكوكب بقدرته على التفكير الذكي بطريقة تجريدية، إلا أنّ الدلائل لا تفتأ تظهر في كل حينٍ مظهرةً أنّه استطاع السيطرة على الكوكب بذكائه الاجتماعي وقدرته على التفكير بطريقة اجتماعية. فلطالما تطلبت الأفكار العظيمة أن يتم العمل عليها بشكل جماعي لتنقل من الحيز النظري إلى الحيز العملي، والتفكير الاجتماعي هو المسؤول عن قدرتنا على بناء علاقات اجتماعية وقدرتنا على صيانتها لتكون أساسًا لروح الفريق لتزدهر وتكبر.
وحتى يكون دماغنا قادرًا على القيام بالحسابات الرياضية كما يقوم بالحسابات الاجتماعية، بالتفكير في الأكل كما يفكر في الصداقة، بالشعور بالألم عندما تتهجم الطاولة على إصبع رجلك الصغير كما يشعر بالألم عندما يوبخك المعلم لأنك لم تكتب الواجب، وللقيام بالكثير والكثير كان على الدماغ أن يكون كبيرًا جدًا.
إذا أخذنا النسبة بين كتلة الدماغ وكتلة الجسد، وجدنا أنّ الإنسان يحتل إحدى المراتب العليا، ليس الأعلى نسبة، ولكنها الأعلى بين أفراد رتبة الرئيسيّات. ويحتل حوت العنبر المرتبة العليا هنا، ولكن لهذا علاقة أيضًا بضخامة جسد الكائن، فكلما كان الجسد أكبر كانت الحاجة للمزيد من الأعصاب لقيادته أكثر.
ولكن توجد نسبة أخرى يتميز بها الإنسان عن جميع الكائنات الحية، وهي النسبة المخصصة من الدماغ التي ليست للوظائف الحيويّة، وإنما للأغراض الأخرى، وهنا يحتل الإنسان المرتبة الأولى دون منازع، حتى أن الدلافين والتي تحل في المرتبة الثانية لديها نصف النسبة التي لدى الإنسان، فدماغ الإنسان مليء بالأجزاء المتخصصة للذكاء واللغة والتفكير والمشاعر والإدراك والذاكرة، وهذا في واقع الأمر ما يُعتقد أنّه سبب سيطرة الإنسان بشكل كبير وتفوقه على باقي الكائنات.
ولكن هذا الدماغ الضخم يأتي مصحوبًا بحاجة ماسّة للطاقة…
Making a bigger brain comes at a great cost in an animal’s time and energy. It is not much of an exaggeration to say we live in order to feed our brains. In adult humans, the brain makes up approximately 2 percent of the total body mass, and yet it consumes (that is, metabolizes) 20 percent of its energy. In prenatal infants, the brain consumes 60 percent of the body’s total metabolism, a rate that continues through the first year of life and only gradually declines to the 20 percent level during childhood.
حتى يملك الكائن دماغًا أكبر فإنه يتعين عليه أن يصرف الكثير من الوقت والطاقة عليه، وليس في الأمر أيّ مبالغة إذا قلنا أننا أصلاً نعيش لكي نطعم أدمغتنا ونمدها بالطاقة. فدماغ الإنسان البالغ يشكل نسبة ٢٪ من كتلة الجسم، ومع ذلك فإنه يستهلك (عن طريق عمليات الأيض الحيوية) أكثر من ٢٠٪ من طاقة الجسد. يبدأ الأمر بالرضع بأن يستهلك دماغهم حوالي ٦٠٪ من طاقة جسدهم، ويبقى الأمر على ذلك خلال السنة الأولى من أعمارهم، ومن ثم تبدأ النسبة بالهبوط تدريجيًا إلى ٢٠٪ أثناء طفولتهم.
فلك أن تتخيل أنّ نظامك الغذائي الذي يمدك يوميًا بحوالي ٢٠٠٠ سعرة حراية هو في الحقيقة يمد دماغك الذي يزن وسطيًا ١٣٠٠ غرام بما يقارب ٤٠٠ سعرة حرارية، بينما يتوازع باقي أعضاء جسدك بوزنك الباقي ما يقارب ١٦٠٠ سعرة حرارية، فدماغك هو المستهلك الأكبر لطعامك. لا تخجل من أن تقول أنك جائع إذن عندما تكون منكبًا على دراستك أو عملك فدماغك بحاجة للطاقة
بهذا أختم الجزء الأول من هذه المراجعة، وسأتمّ الحديث عن النقاط الأخرى في المقالات التالية إن شاء الله.