مراجعة كتاب Social - الجزء الثاني

هذه تتمة للمقالة السابقة التي أتحدث بها عن هذا الكتاب، إذا لم تكن قد قرأتها فيمكنك قراءتها من هنا.


الاتصال

ما علاقة تحطيم قلب شخص ما بكسرك لقدمه؟ وما علاقة الإنصاف بالشكولاتة؟

يولد صغير الإنسان بعد حوالي تسعة أشهر من بداية الحمل، وهي فترة قصيرة نسبيًا إذا ما قورنت بفترات حمل الثدييات الأخرى، والسبب في قصر مدة الحمل هو أنّ رأس الجنين والحاوي على دماغه الكبير يجب أن يمر من قناة الولادة، فلو استمر الجنين بالنمو أكثر من تسعة أشهر في رحم الأم، لازداد حجم دماغه وبالتالي حجم رأسه ولما تيسرت الولادة بشكل طبيعي عن طريق قناة الولادة حيث أن رأس الجنين لن يمر خلال حوض الأم. وبسبب أنّ صغير الإنسان يولد قبل أن يتمّ نضجه فعند ولادته سيكون محتاجًا لرعاية والديه له، وتستمر الحاجة للرعاية لفترة طويلة بعد الولادة، بعض الأمّهات حتى قد تشهد أنّ هذه الفترة تصل إلى عشرين سنة!

أيضًا ولهذا السبب فإنّ حاجة الإنسان للاتصال بما يحيط هي الأهم بين حاجاته الأساسيّة، لأنها في مرحلة نضجه ونموّه هي المفتاح الأساسي لوصول الإنسان لحاجاته الأخرى الجسدية والنفسية، فبينما يضع ماسلو الحاجات الاجتماعية للإنسان بالقرب من أعلى الهرم، فهي في الواقع بالنسبة لصغير الإنسان يجب أن تكون في أدنى الهرم، لأنه ولولا اتصال والديه به واتصاله بهم لما حصل على حاجاته الأخرى. ولذلك، ودون أن نشعر، ينظر دماغنا للعلاقات الاجتماعية على أنّها من أهم ما يملك، وهذا ما ذكرته في الجزء الأول من المراجعة حيث أنّ الدماغ يلجأ لملء وقت فراغه بالتفكير بالقضايا الاجتماعية والعلاقات بين الأفراد.

في أكثر من دراسة ذُكرت في الكتاب، نرى أنّ الألم الاجتماعي والنفسي يحفز المناطق ذاتها التي يحفزها الألم الجسدي، فتوبيخك لابنك أو بنتك أمام زملائهم أو أصدقائهم يسبب لهم ألمًا يكافئ الألم الناتج عن الضرب الجسدي. ولو تخيلت أن ابنك أتاك يومًا باكيًا من المدرسة، وقال لك أنّ أحد الطلاب قام بضربه ضربًا مبرحًا وكسر له أحد أسنانه، فستكون ردّة فعلك أنّك ستذهب للمدرسة، ولأهل ذلك الطفل، وربما وصل بك الأمر لأن تذهب للشرطة، فالاعتداء الجسدي على ابنك بهذه الحالة يُعتبر شيئًا لا يُغتفر. ولكن، لو أتاك ابنك باكيًا أيضًأ وقال لك أنّ أحد الطلاب وصفه بالغبي أمام أصدقائه، فعلى الأغلب ستكون ردّة فعلك بأن تحاول تعليم ابنك أن يتجاهل هذه التعليقات. فلمَ لا نعامل الألم النفسي والاجتماعي بنفس الطريقة أو على الأقل على نفس المستوى من الأهمية إذا كان دماغنا يعاملهم بنفس الأهمية؟

هذه من أهمّ النقاط في هذا الكتاب، فالكثير منا يقول أنّ الكلمة قد تجرح، والتوبيخ يؤلم، ولكن أغلبنا لا يعامل الكلمة السيئة كما يعامل الجرح النازف، ولا يعامل التوبيخ كما يعامل كدمات الضرب الجسدي. علينا أن نغيّر من هذا السلوك، وأن نولي اهتمامًا متساويًا للألم والأثر النفسي والاجتماعي كما الألم والأثر الجسدي

Our Faustian evolutionary bargain allows us as humans to develop slowly outside the womb, to adapt to specific cultures and environments, and to grow the most encephalized brains on the planet. But it requires us to pay for it with the possibility of pain, real pain, every time we connect with another human being who has the power to leave us or withhold love. Evolution made its bet that suffering was an acceptable price to pay for all the rewards of being human.
يمكننا القول أننا تطورنا بشكل يسمح لنا أن ننمو خارج الرحم، ونتأقلم مع ثقافات وبيئات معينة، ونبني الدماغ الأكثر ذكاءً في العالم، ولكن كل هذا كان خلال صفقة، صفقة عُملتها الألم، الألم الحقيقي الذي يلازمنا كلّما ارتبطنا بإنسانٍ آخر وكان بمقدور ذلك الإنسان أن يتركنا أو أن يمنعنا الحبّ الذي نستحقه لقاء حبّنا له. هذه الصفقة كانت الرهان الأكبر لتطور الدماغ بشكل اجتماعي، وكان الألم سعراً مقبولاً للفوائد التي سيجنيها الإنسان من كونه اجتماعيًا.

وعلى الطرف الآخر تمامًا فإن الدماغ يعامل المكافآت الاجتماعية والنفسية كما يعامل المكافآت الجسدية، نقصد المكافآت هنا الأشياء الجيدة التي تحفز الدماغ وتشعره بالسعادة، وتعد الشوكولاتة من أشهر مكافآت الدماغ، لاحتوائها على السكريات التي تغذي الدماغ بالطاقة، وقد اكتشف العلماء في بعض التجارب أن مناطق السعادة بالدماغ التي تتحفز عند أكل الشوكولاتة هي ذاتها التي تتحفز عندما يشعر الإنسان أنّه يُعامَل بإنصاف. وهذا لا يقتصر على الإنسان وحسب وإنما على رتبة الرئيسيّات بشكل عام.

لا يطيق الدماغ أن يشعر أنّه لا يُعامَل بإنصاف، لأنه سيشعر بالألم وسيشعر بمشاعر سلبية كثيرة، أما إذا كان يُعامَل بإنصاف فسيشعر بالسعادة وبمشاعر إيجابية كثيرة، وذلك - كما أكدت أكثر من دراسة مذكورة في الكتاب - بغض النظر عن نتيجة المعاملة العادلة، فردّة فعل الدماغ لا تتغيّر إذا كان الإنصاف يعني أن يحصل الشخص على دولار أو عشرة دولارات أو مئة دولار.

Being treated fairly turned on the brain’s reward machinery regardless of whether it led to a little money or a lot.
يُفَعِّل الإنصاف مناطق المكافآت في الدماغ بغض النظر عن كونه يؤدي إلى القليل أو الكثير من المال.

ويمكننا القول أنّ الدماغ يُعلي من أهميّة الإنصاف لأنه مؤشر قوي وحيوي على مكانة الشخص في المجتمع والاحترام الذي يناله، ويضمن له العيش الكريم بين أقرانه…

Fairness is one of many cues that we have that we are socially connected. Fair treatment implies that others value us and that when there are resources to be shared in the future, we are likely to get our fair share. Fairness is clearly a more abstract sign of social connection than many others we could imagine, and it’s important enough that our brain’s reward system is sensitive to it. The same brain regions that are associated with loving the taste of chocolate or any other physical pleasures respond to being treated fairly as well. In a sense, then, fairness tastes like chocolate.
يعد الإنصاف واحداً من عدّة دلائل لكوننا مرتبطين اجتماعيًا، فالمعاملة بالإنصاف تعني أن الآخرين يولوننا أهمية ويرون لوجودنا قيمة، وأنه في المستقبل لو وُجِدت الفرصة لتشارك مصادر جديدة، فإننا سنحصل على على حصة منصفة. الإنصاف مؤشر مجرد يدل على صحة صِلاتنا الاجتماعية أكثر من غيره، وهو من الأهمية بمكان لدرجة أنّ دماغنا يتحسس كثيراً له ولعدم وجوده. فمناطق الدماغ التي تحب طعم الشوكولاتة وتحب المكافآت الجسدية والمتع الأخرى تتنبّه عندما نُعامل بإنصاف. فبشكلٍ ما يمكننا إذن القول أنّ طعم الإنصاف شبيه بطعم الشوكولاتة.

وهكذا لا يمكن للدماغ البشري أن يعيش في جو خالٍ من الإنصاف، لأنّه سيشعر بالألم ولن يكون قادراً على الإنتاج بشكلٍ يفيد المجتمع. ومن وجهة النظر هذه فإن الدماغ أيضًا يفضّل أن يكون منصفًا مع الآخرين على أن يكون غير ذلك.

إذن فالدماغ مشكّل بطريقة تسعى لفائدة المجتمع وبالتالي فائدة الفرد، ولأن الإنصاف يعني أنّ الفائدة تعمّ على الجميع كان ذلك حافزاً للكثيرين أن يسعوا لإثراء المجتمعات التي يعيشون ضمنها، فترى الكثيرين من الناس مستعدين لتقديم المساعدة والنصح والوقت والجهد والمال لفائدة غيرهم، حتى لو كان ذلك سيؤثر عليهم شخصياً بعض الشيء، إلا أن الكثيرين يفضلون فائدة المجتمع على الفائدة الشخصية، وذلك بغض النظر عن أعراقهم أو أجناسهم أو أديانهم أو انتماءاتهم.

[…] in addition to being self-interested, we are also interested in the welfare of others as an end in itself. This, along with self-interest, is part of our basic wiring.

[…]

A large international collaboration examined fifteen preindustrial societies, from the foraging Au of Papua New Guinea to the farming Shona of Niger-Congo, and found that people made decisions counter to their own self-interest in each society. People around the world are willing to get a little less so that a stranger can get a little more.

بالإضافة لكوننها نسعى لفائدتنا الشخصية، فنحن أيضًا مهتمون بمصلحة الآخرين كهدف بحد ذاتها، هذا هو تكويننا الأساسي في الدماغ.

في دراسة أجريت على عدة مجتمعات غير صناعية كمجتمع “آو” في بابا غينيا الجديدة ومجتمع “شونا” في بين الكونغو والنيجر، وجد الباحثون أن الناس كانت تأخذ قرارات عديدة تناقض مصلحتها الشخصية في كل مجتمع إذا كان ذلك يعني مصلحة المجتمع ككل. فالناس حول العالم مستعدة للحصول على الأقل إذا عنى ذلك حصول شخص غريب على زيادة ولو كانت صغيرة.

ومن هذه النقطة فإن الكثير من الناس مستعد للتبرع بماله لمساعدة أشخاص قد لا يراهم ولا يعرفهم طوال حياته، فتجد شخصًا يعيش في آلاسكا يتبرع بالمال لبناء بئر للماء في إحدى القرى الإفريقية النائية، هو بذلك يرضى أن يحصل على القليل من المال إذا كان ذلك حصول أحد ما على ماء الشرب بشكل أسهل، دونما أي اتصال جسدي أو حسي بين الشخصين، وعدم وجود هذا الاتصال يلغي تمامًا فكرة أنّ الإنسان يفعل الخير لغيره لأنه يشعر أنّه ملزم بفعل ذلك من باب الخجل أو العيب. في دراسة أجراها الكاتب كان المشاركون يلعبون لعبة مع مشاركين آخرين حول العالم، دون أي اتصال شخصي أو حسي بين المشاركين، وكانت إحدى مراحل اللعبة تتطلب من المشارك الاختيار بين أن لا يحصل هو أو المشارك الآخر على أي شيء في المقابل وبين أن يحصل المشارك الآخر على أكثر مما سيحصل عليه المشارك نفسه، ومع ذلك كان الغالبية يختارون الخيار الثاني، كنوع من عمل الخير للمشارك الآخر حيث يعطونه بعض ما يحصلون عليه وينتهي الأمر بالاثنين سعداء، وكان كل ذلك يجري تحت تصوير لأدمغتهم مما أتاح للعلماء رؤية أنّ المناطق التي تحفزت في الدماغ وأصدرت القرار كانت المناطق المسؤولة عن الاختيار الطوعي وليست المسؤولة عن الاختيار الإجباري، وترافق ذلك مع نشاط في المناطق المسؤولة عن المكافئة…

[…] there was increased reward activity even though the players were earning less money for themselves. The ventral striatum seemed to be more sensitive to the total amount earned by both players, rather than to one’s personal outcome. Moreover, the lateral prefrontal regions were not engaged in the study when subjects cooperated, suggesting that cooperating involves a real preference, not a sense of obligation.
كانت هنالك زيادة في نشاط المناطق المسؤولة عن المكافئة مع أنّ اللاعبين كانوا يحصلون على مبلغ قليل لأنفسهم، فالجزء البطني من الجسم المخطط في الدماغ كان مهتمًا أكثر للمبلغ الذي يجنيه كلا اللاعبين مقارنةً بالمبلغ الذي يجنيه اللاعب وحده. كما أن الأجزاء الجانبية الأمامية لم تكن محفزة عندما اختار اللاعبان أن يتشاركا الربح عوضًا عن الخسارة، مما يقترح أن المشاركة والتعاون كانا نابعين عن اختيار شخصي وليس عن إحساس بالواجب.

وفي النهاية أختم هذا الجزء بالاقتباسين التاليين، وسأتمّ الحديث عن النقاط الأخرى في المقالات التالية إن شاء الله.

“If you would like to be selfish, you should do it in a very intelligent way. The stupid way to be selfish is the way we always have worked, seeking happiness for ourselves alone and in the process becoming more and more miserable. The intelligent way to be selfish is to work for the welfare of others” - Dalai Lama
“إذا أردت أن تكون أنانيًا فعليك أن تقوم بذلك بطريقةٍ ذكية. فالطريقة الغبية لكونك أنانيًا هي بأن تسعى دائمًا لسعادتك الشخصية دون سعادة الآخرين، وهذا ما نقوم به في أغلب الأحيان، وهذا ما يودي بنا إلى تعاسةٍ أكثر وأكثر. أما الطريقة الذكية هي بأن تسعى لسعادة الآخرين.” - دلاي لاما
Although adults can survive with unmet social needs far longer than with unmet physical needs, our social bonds are linked to how long we live. Having a poor social network is literally as bad for your health as smoking two packs of a cigarettes a day.
مع أن البالغين يستطيعون البقاء دون حاجاتهم الاجتماعية أكثر مما يستطيعونه دون حاجاتهم الجسدية، إلا أن علاقاتنا الاجتماعية مرتبطة بشكلٍ وثيق بأعمارنا وطولها، لدرجة أنّ العلاقات والشبكات الاجتماعية الضعيفة تكافئ تمامًا في ضررها على الصحة وطول العمر تأثير تدخين الشخص لعلبتين من السجائر يوميًا.
هذه المقالة جزء من سلسلة مقالات...
  1. مراجعة كتاب Social - الجزء الأول
  2. مراجعة كتاب Social - الجزء الثاني

عبد الله دياب

أبحث عن اليقين في كل تفاصيل الحياة

أمستردام، هولندا

التعليقات باستخدام Disqus