مراجعة كتاب Sapiens - الجزء الأول

بعد أن قام بيل غيتس بوضع هذا الكتاب ضمن قائمة كتبه لصيف عام ٢٠١٦، وبعد أن تكلّم الكثيرون من زملائي وأصدقائي عن هذا الكتاب، قرّرت أن أقرأه، خاصّةً وأنّني أحبّ قراءة كتب العلوم وتاريخ الكون والتطوّر. وبعد قراءتي له وجدت أنّه كتابٌ جميلٌ جدًا، وأنصح الكثير بقراءته، ولكن هنالك بعض النقاط برأيي ضدّ الكاتب والكتاب، سأوردها فيما يلي. مراجعتي الأصلية كتبتها باللغة الإنكليزيّة على موقع Goodreads، سأقوم هنا بإعادة كتابتها باللغة العربيّة، وسأقوم أيضًا بإضافة بعض النقاط الأخرى.

هنالك مقالة قادمة سأناقش فيها إيماني بنظريّة التطوّر بشكلٍ كاملٍ وبالتالي فلن أناقش النظريّة أو رأيي وإيماني بها هنا، وإنما سأناقش الكتاب فقط.

الكتاب رائعٌ جدًا، ويعطيك معلوماتٍ جديدةً بالتأكيد، سيفتح لك عينيك على عالمٍ لم تره من قبل، وسيريك بعض اللحظات الكئيبة والشريرة من تاريخ البشريّة، سيشعرك في بعض اللحظات أنّك بالفعل تكره البشريّة والبشر والخراب الذي ألحقوه بكوكب الأرض وبالكائنات الأخرى. الكتاب قدم الكثير من الأفكار، ولكن للأسف لم يستفض في الشرح، وكان مقتضبًا في كثير من النقاط التي أحببت لو أنه عرض المزيد عنها.

سأعرض أولًا المشكلة التي وجدتها في هذا الكتاب، وبعدها سأناقش بعض النقاط الجميلة جدًا منه. وبما أن الكتاب يحتوي على الكثير من النقاط التي أحببت أن أشاركها وحتى لا تطول هذه المقالة فسأقوم بنشر النقاط في مقالتين أو أكثر.


مشكلة الكتاب والكاتب

كنت سأعطي هذا الكتاب تقييمًا تامًا ٥ نجومٍ، ولكن ما دفعني لإعطائه ٣ نجوم فقط هو أنّ الكاتب لم يورد المصادر لكثيرٍ من الأفكار التي عرضها في الكتاب، وهذا ما لم أتوقعه من كتاب يناقش تاريخ البشرية بشكل علمي، كما أنّه خلط الكثير من آرائه الشخصيّة ضمن السطور بين الكلام العلمي الذي يحويه الكتاب، وجهات النظر هذه كانت واضحة أنّها شخصيّة بحتة دون مصادر أو أيّ مستند، كما أن هذه الآراء كانت تناقش تصرفات وأفكار فئات كثيرة من البشر لا يمكن أن يتم دراستها بشكل علمي، خاصةً وأنّ الكاتب نفسه قد أشار لهذه النقطة أنّّ هذه الأفكار مجهولة المنشأ ولا تُدرس، وبالتالي أنصح من يريد قراءته أن يتوخّى الحذر وألّا يأخذ أيّة فكرة من هذا الكتاب كفكرة صحيحة وحقيقة مؤكدة، وإنّما أن يتأكّد ويبحث ويقرأ هذه الفكرة من أكثر من مصدر حتى يستوقن من صحتها.

وللأسف ومما زاد الطين بلّة أن الكثير من الأفكار والأراء الشخصية هذه كانت خاطئة، كيف أعرف ذلك؟ حسنًا كانت الكثير من الأفكار تناقش أصحاب الأديان والمعتقدات والأفكار التي لا توافق فكر الكاتب، وأنا أحدهم، فالكاتب أدرج الكثير من الأفكار عن الإسلام، والمسلمين، والرسول محمد ﷺ، والكثير من هذه الأفكار كانت خاطئة، فبحكم كوني مسلمًا استطعت بسهولة معرفة أنّها خاطئة، وللتنويه مرة أخرى فليس النقاش هنا عن اختلاف بعض المسلمين مع نظرية التطور وإنما النقاش هنا عن أفكار أدرجها الكاتب عن تصرفات المسلمين واعتقاداتهم، هذه الأفكار أظهرت لي أنّ الكاتب في واقع الأمر لا يعرف الكثير عن الإسلام، أو أنّه لم يقم بعمل أبحاث كثيرة لمعرفة الحقيقة واكتفى بأية أفكار أو مصادر وقعت يده عليها، وهذا ما جعلني أقع في حيرة من أمري، فكيف لي الآن أن أصدق أي كلام آخر قاله هذا الكاتب عن أي مجموعة بشرية أو أي حقبة زمنية؟!، لا أنكر أنّ الكثير من الأفكار الأخرى كانت صحيحة، ولكنّ الكاتب جعلني أشكّ في كلّ كلمةٍ أقرؤها، وكلّ ذلك لأنّ الأفكار العلمية والآراء الشخصية لا يجب أن يجتمعان معًا في بحثٍ أو كتابٍ علمي!

مثال عن تلك الأفكار

فيما يلي اقتباس من أحد مقاطع الكتاب:

For example, the prophet Muhammad began his religious career by condemning his fellow Arabs for living in ignorance of the divine truth. Yet Muhammad himself very quickly began to argue that he knew the full truth, and his followers began calling him ‘the Seal of the Prophets’. Henceforth, there was no need of revelations beyond those given to Muhammad
على سبيل المثال، بدأ النبي محمد حياته المهنية الدينية بسخطه على رفاقه العرب لعيشهم في جهل عن معرفة الحقيقة الإلهية. ولكن محمد نفسه ما لبث أن بدأ بالادعاء بمعرفة الحقيقة كاملة ومعرفة كل شيء، وبدأ أصحابه بمناداته بخاتم الرسل. وبالتالي لم تعد هناك حاجة لأية اكتشافات غير التي يأتي بها محمد.

أنا كمسلم أعرف وأؤمن أن محمد ﷺ لم يدّعِ أبدًا معرفة كل شيء، أو حتى الوصول إلى الحقيقة الكاملة، على العكس تمامًا، فقد كان يستشير أصحابة ويأخذ برأيهم في الكثير من الأشياء، مثلًا في مسألة زراعة التمر، قال لأصحابه “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، فلم يدع أنه أعلم منهم بهذا الأمر. كما أنه ﷺ لم يدع أبدًا وصوله إلى اليقين والحقيقة الكاملة، بل حتى أنّ الله قد أمره (وأمر المسلمين) بالبحث عن الحقيقة والتفكّر في كل شيء في هذا الكون، وخاصةً في النفس البشرية، وفي أكثر من موضع كان القرآن يحث الإنسان على البحث عن التصميم الذكي في جسمه، والإبداع الخالص في خلقه وخلق الكون حوله. هذا الكتاب أصلًا يوضح لنا أننا نجهل الكثير عن أجسادنا وعن نشأتها، فكيف لأحدنا أن يدعي المعرفة التامة؟ وكيف بالرسول ﷺ أن يدعي ذلك؟ أمر الله تعالى الرسول ﷺ في القرآن الكريم باستشارة أصحابه، كما أمره بالبحث عن اليقين والعبادة حتى الموت، فلا يمكن لأي شخص أن يقول أن الرسول ﷺ قد ادعى المعرفة التامة والوصول للحقيقة، ولا أن يقول أن الإسلام أمر المسلمين ببعض الأشياء ولم يأمرهم بغيرها فأصبحوا لا يبحثون عن الحقيقة وأصبحوا عمين، ولا أن يقول أن القرآن أتى للمسلمين على أنه المصدر الوحيد للمعرفة!

إذا كانت هذه فكرة واحدة خاطئة من عدة أفكار أدرجها الكاتب عن المسلمين، فأنا متأكد من أن البوذيين، والمسيحيين، واليهود، والشيوعيين، والماركسيين، والكثيرين أيضًا ممن قام الكاتب بانتقادهم بطريقة غريبة وفظة، أنا متأكد من أنهم جميعهم لديهم أفكار خاصة بهم لم يفهمها هذا الكاتب ولم يبحث عنها بشكل صحيح وإنما قام بخطلها وتلويثها وتقديمها للقارئ.


بعض النقاط والاقتباسات التي أعجبتني في الكتاب

ما يميّز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية

The real difference between us and chimpanzees is the mythical glue that binds together large numbers of individuals, families and groups. This glue has made us the masters of creation.
الفرق الحقيقي بيننا وبين قردة الشمبانزي هو ذلك الغراء العجيب الذي يربط أعدادًا ضخمة من الأفراد والعائلات والجماعات ببعضها البعض. هذا الغراء جعل من البشر روّاد الإبداع.

في كتابٍ آخر - لكاتبٍ آخر - سأتحدث عنه لاحقًا أيضًا، يذكر الكاتب أنّ من أهمّ ما يميز البشر هو ذلك الرابط الاجتماعي الفريد الذي يربط الفرد منهم بمئات الأفراد، فعلى عكس الكائنات الأخرى، تطوّرت طائفة الثدييات (Mammals) لتكون كائنات اجتماعية، وامتازت عنها رتبة الرئيسيّات (Primates) والتي بدورها تطورت لتصبح كائنات اجتماعية وتعيش ضمن مجموعات كبيرة وبينها علاقات اجتماعية متعددة، وفي نهاية السلسلة تميز الإنسان بكونه الكائن صاحب أكبر مجموعة علاقات اجتماعية معقدة، حيث يستطيع الفرد من البشر أن يعيش ضمن مجموعة من الأشخاص يتجاوز عددهم الـ ١٥٠ فردًا، ويستطيع أيضًا أن يستوعب جميع علاقات هؤلاء الأفراد مع بعضهم البعض، وهو عدد علاقات هائل جدًا من رتبة العشرة آلاف علاقة، بينما لا يستطيع أي كائن آخر أن يصل لنصف عدد هذه العلاقات. ويعزو الكاتب أنّ هذا التطور الاجتماعي الهائل هو السبب الذي جعل من الإنسان متميزًا ومتفوقًا عن الكائنات الأخرى في هذا الكوكب.

الإنسان القديم أمهر من الإنسان الحديث

Today, most people in industrial societies don’t need to know much about the natural world in order to survive. What do you really need to know in order to get by as a computer engineer, an insurance agent, a history teacher or a factory worker? You need to know a lot about your own tiny field of expertise, but for the vast majority of life’s necessities you rely blindly on the help of other experts, whose own knowledge is also limited to a tiny field of expertise. The human collective knows far more today than did the ancient bands. But at the individual level, ancient foragers were the most knowledgeable and skilful people in history.
واليوم، أغلب الناس في المجتمعات الصناعية لا يعرفون الكثير عن العالم الطبيعي لكي يعيشوا فيه. فمالذي تحتاج معرفته حقًا لتعيش إذا كنت مهندس حواسيب، أو مندوب تأمينات، أو مدرس تاريخ، أو عامل مصنع؟ عليك فقط أن تعرف الكثير عن مجال خبرتك الضيق، ولكن في أغلب حاجاتك للحياة فأنت تعتمد بشكل أعمى على مساعدة الآخرين لك بخبراتهم، والتي هي بدورها أيضًا تعدّ خبرات ضيقة في مجالات معينة. إن مجموع المعرفة البشرية اليوم يفوق بالتأكيد مجموع المعرفة البشرية عند البشر القدماء، ولكن الفرد منهم بالتأكيد كان من أعلم الناس على سطح هذا الكوكب.

هذه النقطة تظهر لنا الوجه الخفي للعلاقات البشرية، فأنا كمهندس للبرمجيات لا أستطيع العيش دون الاعتماد على مئات ولربما آلاف البشر الآخرين بخبراتهم الخاصة، وفي حال اضطرني الأمر للعيش وحدي في مكان منعزل بعيدًا عن كل هؤلاء البشر فأنا بالتأكيد لن أستطيع العيش لأكثر من عدة أيام، خبراتي بالحياة منحصرة على المجال الذي تخصصت فيه، لا أعلم إلا القليل عن الزراعة، أو عن الصيد، أو عن النباتات السامّة، أو عن معالجة الجروح، ونحن جميعًا كذلك، لا نستطيع العيش دون بعضنا البعض، اعتمادنا الكبير على علاقاتنا الاجتماعية وتخصصنا الدقيق جعل من البشر كتلة واحدة كبيرة، لا يمكن للفرد أن ينفصل عنها ويضمن لنفسه البقاء.

تاريخ البشر المظلم ومستقبلهم الأكثر ظلمة

Don’t believe tree-huggers who claim that our ancestors lived in harmony with nature. Long before the Industrial Revolution, Homo sapiens held the record among all organisms for driving the most plant and animal species to their extinctions. We have the dubious distinction of being the deadliest species in the annals of biology.
لا تصدق أولئك الذين يعانقون الأشجار ويزعمون أنّ أجدادنا عاشوا بتناغم مع الطبيعة. فمنذ زمن طويل يسبق الثورة الصناعيّة بكثير، كان الإنسان حامل اللقب كأكثر الكائنات الجية فتكًا بالكائنات الأخرى وما زال، فقد أدى سلوك البشر عبر العصور إلى انقراض الكثير الكثير من فصائل النباتات والحيوانات.

يتحدث الكاتب في بعض المقاطع في هذا القسم عن كيف تزامن وصول الإنسان إلى كل بقعة من بقاع الأرض مع انقراض أعداد ضخمة من فصائل الكائنات الحية، فقد كان الإنسان يصطادها دون أي رادع، وكان يقطع الأشجار ويحرق الغابات ليستوطن الأرض الجديدة، مدمّرًا بذلك النظام البيئي الذي عاشت فيه تلك الكائنات لآلاف السنين قبل قدوم الإنسان. ويستمر الإنسان بهذه الأعمال حتى الآن، بالصيد الجائر والرعي الجائر، بصيد الأسماك بأعداد تفوق أعداد تكاثرها حتى باتت المحيطات قريبة جدًا من أدنى مستوى لها من حيث عدد الكائنات الحية فيها. إذا لم يتوقف الإنسان عن هذه الأعمال بحق الكائنات الحية الآخرى، فلن يستطيع الصمود أمام التغييرات البيئية والمناخية التي ستحصل لاحقًا بسببه.

A rare wild rhinoceros on the brink of extinction is probably more satisfied than a calf who spends its short life inside a tiny box, fattened to produce juicy steaks. The contented rhinoceros is no less content for being among the last of its kind. The numerical success of the calf’s species is little consolation for the suffering the individual endures.
على الأغلب فإن أحد أفراد فصيلة وحيد القرن المهددة بالانقراض يعيش حياة رغيدة ومرضية أكثر بكثير من أي عجل يعيش حياته القصيرة داخل صندوق صغير، يتجرع الطعام ليصبح وجبة لحميّة دسمة ومليئة بالدهون. وحيد القرن ذاك بالتأكيد ليس راضٍ عن كونه مهدد بالانقراض وكونه الأخير من نوعه. وبالتالي فإن العذاب الذي يعيشه العجل في حياته القصيرة يعد ثمنًا بسيطًا مقابل النمو الهائل في أعداد البقر على الكوكب.

نقطة أخرى هنا عن تاريخ الإنسان، حيث أن الإنسان باعتماده الضخم على الماشية في نظامه الغذائي، أصبح يهدم الأنظمة البيئية الطبيعية ليبني مزارع لإطعام هذه الماشية، ويبني مصانع لتربيتها بشكل سيء جدًا ومذل، ويلوث الهواء والماء بمنتجاتها بكميات ضخمة جدًا، كل هذا لأجل تصنيع ملايين الأطنان من البيض واللحم والحليب والمنتجات الحيوانية الأخرى يوميًا للاستهلاك البشري، ولم يكتف بهذا فقط، بل أصبح ينتج ما يفيض عن حاجته بشكل كبير بحجة الأمن الغذائي والتسويق. يذكرني هذا الكلام بالفلم الوثائقي Cowspiracy والذي يتحدث عن ضرر تربية الماشية بالبيئة وكيف أنه المسبب الرئيسي بلا منازع لمشاكل البيئة والاحتباس الحراري الذي نعيشه الآن. ناهيك عن معاملة الإنسان لهذه الحيوانات بشكل مذل سيء للغاية، يأخذون العجل وهو عمره ساعات ليبعدوه عن والدته لتتم تغذيته بأغذية مخصصة تجعل منه سمينًا بسرعة، بينما يتم استغلال والدته لإنتاج الحليب، وبدلًا من إعطاء الحليب لمولودها يقوم الإنسان بتعليب الحليب وبيعه، ومن ثم يستغل الوالدة مرة أخرى بأن يجعلها تحمل مرة أخرى لتلد مرة آخرى ويبقى الحليب واللحم مستمران بالوصول إلى رفوف محلات البقالة. ونفس الكلام ينطبق على الخرفان والماعز والدجاج وغيرها من الحيوانات التي أصبحت مصدرًا أساسيًا لغذاء الإنسان، وأصبحت أعدادها مهولة جدًا مقارنة بمجموع أعداد الكائنات الحية الأخرى جميعها.

الثورة الزراعية ثورة على الإنسان

The Agricultural Revolution certainly enlarged the sum total of food at the disposal of humankind, but the extra food did not translate into a better diet or more leisure. Rather, it translated into population explosions and pampered elites. The average farmer worked harder than the average forager, and got a worse diet in return. The Agricultural Revolution was history’s biggest fraud.
زادت الثورة الزراعية بكل تأكيد كمية الطعام المتوفر لاستهلاك البشر، ولكن تحسين كمية الطعام لم يترافق مع تحسين في النظام الغذائي أو زيادة الاستمتاع، على العكس، ترافق ذلك مع انفجار في معدل السكان وظهور الطبقات المدللة. فقد عمل الإنسان الفلاح بشكل جاد وشاق أكثر بكثير من سابقه الإنسان الصياد والباحث عن الطعام، ولكنه في المقابل حصل على حمية غذائية أسوأ. الثورة الزراعية كانت من أكبر كذبات التاريخ.

قد لا يوافق الكثيرون على هذه الفكرة، ولكن الكاتب يعرض في هذا القسم من الكتاب العديد من الأفكار والقضايا عن النظام الغذائي العالمي الحالي، الذي حول الإنسان من باحث عن الطعام إلى عبد للطعام، يعمل ليل نهار في خدمة النباتات (والحيوانات)، لكي يزيد إنتاجه من الغذاء، ويترافق هذا مع زيادة في معدل السكان، فهي حلقة مفرغة، تدور البشرية فيها في طريقها إلى الهلاك، ومن المثير للاهتمام أننا ومع كل هذا التقدم الزراعي ما زلنا نرى المجاعات في الكثير من أطراف الكوكب، وأصبحت البدانة مرض العصر وأحد أكثر الأسباب الرئيسية للأمراض المزمنة، فيما يعتقد الإنسان أنه طوّع النباتات لخدمته وغذائه، فإنه ومن وجهة نظر حبة القمح فإنها استطاعت أن تحول الإنسان إلى عبد لها يزرعها في كل مكان وينشرها حول الأرض.

تقترب الفكرة هنا من فكرة الفقرة السابقة، فالإنسان بشراهته المعهودة تحول من كائن يحصد قوت يومه من الصيد ومن تجميع الثمار، إلى فلاح يعمل عند النباتات، أو راعٍ يعمل عند الحيوانات، معتقدًا بذلك أنه أصبح أفضل، إلا أن الكثير من الدلائل تشير أن حياة الإنسان القديم كانت أفضل وأقل توترًا وعملًا. وبتحول الإنسان إلى هذه الحالة ظهرت الطبقة الراقية المدللة، التي تحصد ما يزرعه الفلاح، فالفلاح أيضًا عبد عندها، وبما أن هذه الطبقة أقلية وصغيرة، فإنها لن تهتم لأمر الإنسان العامل عندها طالما كانت هي الأقوى والمتحكمة، ولذلك يقول الكاتب:

History is something that very few people have been doing while everyone else was ploughing fields and carrying water buckets … The French Revolution was spearheaded by affluent lawyers, not by famished peasants
بُنيَ تاريخ البشرية بأيد قلّة قليلة بينما كان الآخرون منهمكون بنبش التربة ونقل الماء … كان المحامون هم قادة الثورة الفرنسية، وليس الفلاحون الجياع.

عندما انشغل أغلبية الناس بتأمين متطلبات العيش المتزايدة بسبب نظام الحياة المبني على الاستهلاك، أصبحت القوة والعلم والتغيير بأيد قلّة قليلة من البشر، يتحكمون بمصير الجميع، بينما يصبح همّ الجميع الحصول على ما يطعمون به أنفسهم. وهذا ما أدّى إلى التغييرات السياسية الكبيرة في تاريخ البشرية. ولكن تسارع الأحداث على البشرية لم يعطها الوقت الكافي لتعرف كيف تعيش مع بعضها البعض…

The Roman Republic reached the height of its power in the first century BC, when treasure fleets from throughout the Mediterranean enriched the Romans beyond their ancestors’ wildest dreams. Yet it was at that moment of maximum affluence that the Roman political order collapsed into a series of deadly civil wars. Yugoslavia in 1991 had more than enough resources to feed all its inhabitants, and still disintegrated into a terrible bloodbath. The problem at the root of such calamities is that humans evolved for millions of years in small bands of a few dozen individuals. The handful of millennia separating the Agricultural Revolution from the appearance of cities, kingdoms and empires was not enough time to allow an instinct for mass cooperation to evolve.
وصلت الجمهورية الرومانية إلى أوج عزها عندما كانت تأتيها الكنوز والأموال من جميع أنحاء حوض المتوسط فاغتنت غنىً لم يتصوره أحد من أسلاف الرومانيين. ومع ذلك فإنها وفي أوج عزها انهار نظامها السياسي وانقسمت تحت وطأة الحروب الأهلية الكثيرة. كما كانت يوغوسلافيا عام ١٩٩١ تملك من المصادر ما يكفي جميع سكانها ويزيد، ولكنها انهارت أيضًا وانتهت بحمامات من الدماء. المشكلة الأساسية هنا أن الإنسان تطور عبر العصور ليعيش في مجموعات صغيرة، ولم تكن السنون القليلة نسبيًا والفاصلة بين الثورة الزراعية ونشأة المدن والدول والممالك والإمبراطوريات كافية للإنسان ليطور ثقافة التعاون مع مجموعات هائلة من البشر.

الإنسان المستهلك الأكبر

One of history’s few iron laws is that luxuries tend to become necessities and to spawn new obligations. Once people get used to a certain luxury, they take it for granted. Then they begin to count on it. Finally they reach a point where they can’t live without it.
“تتحول الكماليات الفخمة إلى حاجات أساسية منتجة بذلك متطلبات والتزامات جديدة”، هذا أحد أكثر قوانين التاريخ تأكيدًا، عندما يعتاد البشر على وجود إحدى الكماليات الفخمة فسيتحولون للاعتماد عليها، وبزيادة اعتمادهم عليها سيصبح من المستحيل لهم التخلي عنها.

الاستهلاك آفة البشر الكبرى، أصبح الاستهلاك هدفًا بحد ذاته، الكثيرون يعيشون حياتهم بأهداف استهلاكية بحتة، فكم من قائمة من قوائم أهداف الحياة التي وضعناها حَوَتْ “امتلاك شقة فارهة” أو “امتلاك سيارة فاخرة” أو “الذهاب في رحلة حول العالم” أو “الحصول على مليون دولار”؟ الكثيرون منا لا يكادون يستطيعون تحديد أهداف لهم في الحياة دون أن تكون لها طبيعة استهلاكية!

Consumerism tells us that in order to be happy we must consume as many products and services as possible. If we feel that something is missing or not quite right, then we probably need to buy a product (a car, new clothes, organic food) or a service (housekeeping, relationship therapy, yoga classes). Every television commercial is another little legend about how consuming some product or service will make life better.
تقول لنا النظرة الاستهلاكية أننا ولكي نكون سعداء يجب علينا أن نستهلك المنتجات والخدمات قدر المستطاع، إذا أحسسنا أن هناك خطب ما أو شيء ما ليس صوابًا فغالبًا نعتقد أننا بحاجة لشراء منتج ما، سيارة، ملابس جديدة، أطعمة عضوية، أو أن نطلب خدمات من الآخرين، خدمة تنظيف المنازل، علاج نفسي للمتزوجين، دروس في اليوغا. كل إعلان تشاهده هو أسطورة أخرى تقول لك أن استهلاكك (أو امتلاكك) لمنتج أو خدمة ما سيجعل من حياتك حياةً أفضل.

انغمس الإنسان في عالم الشهوات وأصبح عبدًا لها، أصبح يستهلك كل شيء وكل لحظة، إذا كان لديه وقت فراغ فإنه يشاهد التلفاز أو يذهب لصالات الألعاب أو الأفلام أو غيرها من التسالي، يستهلك أي شيء وكل شيء، يملأ الفراغ الذي لديه باستهلاكه ظانًا منه أنه يجعل حياته أفضل.

Consumerism has worked very hard, with the help of popular psychology (‘Just do it’) to convince people that indulgence is good for you, whereas frugality is self-oppression. It has succeeded. We are all good consumers. We buy countless products that we don’t really need, and that until yesterday we didn’t know existed. Manufacturers deliberately design short-term goods and invent new and unnecessary models of perfectly satisfactory products that we must purchase in order to stay ‘in’. Shopping has become a favourite pastime, and consumer goods have become essential mediators in relationships between family members, spouses and friends. Religious holidays such as Christmas have become shopping festivals. In the United States, even Memorial Day – originally a solemn day for remembering fallen soldiers – is now an occasion for special sales. Most people mark this day by going shopping, perhaps to prove that the defenders of freedom did not die in vain.
عملت النظرة الاستهلاكية بجد وبالتعاون مع المحفزات النفسية على إقناع الناس أن انغماسهم (بالاستهلاك والشهوات) جيد لهم، بينما توفيرهم وعدم استهلاكهم هو كبت للذات. ولقد نجحت بذلك، فنحن جميعًا مستهلكون جيدون، نشتري منتجاتٍ لا حصر لها مع أننا لسنا بحاجة لها بحق، كما أننا لم نكن نعلم أصلًا أنها موجودة قبل شرائنا لها بيوم أو يومين. تقوم المصانع جاهدةً وبشكل متعمد بتصميم منتجات ذات عمر قصير، فقط لتقوم لاحقًا بتصميم طرازات أحدث منها ليس لها لزوم أصلًا ولكنها ترغمنا بذلك على شرائها لكي نبقى “على اتصال” مع الحداثة. أصبح التسوق هو الفعالية التي نلجأ لها لقضاء وقتنا في أغلب الأحيان، وتحولت المنتجات إلى أشياء أساسية في العلاقات الإنسانية يتبادلها أفراد العائلة والأزواج والأصدقاء. تحولت المناسبات الدينية كعيد الميلاد إلى مهرجانات للتسوق، حتى أن يوم التذكّر (يوم لتذكّر من مات من الجنود في الولايات المتحدة الأمريكية) تحول إلى فرصة للتنزيلات، وأصبح الكثيرون يتذكرون هذا اليوم للذهاب للتسوق، ربما ليثبتوا لأولئك الجنود أنهم لم يموتوا بلا سبب؟!

في الكثير من البلدان تجد أن الناس تقضي معظم وقتها في مراكز التسوق، ولا يمكن لأي شخص يمشي في هذه المراكز إلا أن يشتري ويستهلك، أصبح الاستهلاك غاية، وأصبح التسوق متعة، بل أساسًا من أسس الحياة، لدرجة أن الاستهلاك غيّر الكثير من مبادئ الحياة… فأصبحت مشاعرنا تبعًا للسوق الاستهلاكي وطريقة تعبيرنا عنها تبعًا لمنتجات ذلك السوق…

Previously bride and groom met in the family living room, and money passed from the hands of one father to another. Today courting is done at bars and cafés, and money passes from the hands of lovers to waitresses. Even more money is transferred to the bank accounts of fashion designers, gym managers, dieticians, cosmeticians and plastic surgeons, who help us arrive at the café looking as similar as possible to the market’s ideal of beauty.
كان الزواج سابقًا يتم بأن يلتقي العريس والعروس في غرفة الجلوس وينتقل المهر من والد أحدهما لوالد الآخر. أما اليوم فتحول الزواج لينطلق من القهاوي والمطاعم، وينتقل المال من أيدي العاشقين إلى يد النادل، كما أنهم ينقلون المزيد من المال إلى حسابات مصممي الأزياء، الصالات الرياضية، متخصصي التغذية، فنيي التجميل، جراحي التجميل، والكثيرون الذين يجعلون من لقاء الأحبة في ذاك المطعم يطابق ما يطلبه السوق الاستهلاكي قدر الإمكان.

سأقوم إن شاء الله بإكمال الحديث عن هذا الكتاب في مقالة أخرى قريبًا…

هذه المقالة جزء من سلسلة مقالات...
  1. مراجعة كتاب Sapiens - الجزء الأول
  2. مراجعة كتاب Sapiens - الجزء الثاني

عبد الله دياب

أبحث عن اليقين في كل تفاصيل الحياة

أمستردام، هولندا

التعليقات باستخدام Disqus