عن الإبل والتفكر في خلقها

شاهدت مؤخرًا وثائقيًا يتحدث عن الإبل (الجِمال)، وما بها من صفاتٍ ميزتها عن باقي الحيوانات الأخرى. لا يعترف الفريق الذي أعد الوثائقي بالخالق ولا بالخلق، فأسندوا كلما تحدثوا عنه في الوثائقي إلى الطبيعة والتطور والاصطفاء، وكأن الصدفة قادرةٌ على هذا الإبداع العظيم.

أحببت أن أشارك معكم ما تعلمته من معلومات عن الإبل من هذا الوثائقي، وأن نتفكر سويةً في خلق الله ﷻ الذي أمرنا بأكثر من آيةٍ من كتابه الكريم بأن ننظر للإبل ونتفكر في خلقها.

الأصل، وجهة نظر دينية وتطورية

يزعم الوثائقي أن الإبل التي نراها اليوم في عالمنا تطورت عن حيوان (Protylopus) الذي كان يعيش في قارة أمريكا الشمالية منذ حوالي الخمسين مليون سنة مضت، حيث أن الأحافير التي وجدها العلماء لهذا الحيوان وُجدت أقدمها في تلك المنطقة. تطور هذا النوع وتنقل من مكان لآخر وتغير شكلها، حتى أن أحد الحيوانات المنحدرة منه (Aepycamelus) شكله أشبه بالزرافة منه بالجمل. ثم يزعم الوثائقي أن الحيوانات المنحدرة من هذا الأصل انطلقت في رحلة عبر القارات قبل حوالي ستة أو سبعة ملايين سنة، حينما كانت قارة أمريكا الشمالية متصلةً بقارة آسيا. فبعض الأفراد انتقلوا إلى آسيا وتطورت لتصبح الجِمال التي نعرفها الآن، والبعض الأخر ذهب باتجاه أمريكا الجنوبية وتطورت لتصبح حيوانات اللاما وشبيهاتها. ومن ثم انقرضت الكائنات الأصلية التي في أمريكا الشمالية، تاركةً وراءها الحيوانات التي انحدرت عنها لتكمل مسيرتها.

أنا لا أتبنى شخصيًا سردية التطور هذه، وإنما أسردها كما سردها الوثائقي، فمع أن الأدلة العلمية والأحافير وتشابه الحمض النووي تقول إن هذه الحيوانات كلها أتت من أصلٍ واحد، إلا أن ذلك لا ينفي أبدًا أن تكون هذه جميعًا مخلوقاتٍ خلقها الله ﷻ على هذا الشكل وبهذه الصفات الوراثية المتشابهة ليدلنا على أنه الخالق عز وجل هو الذي خلق جميع الخلائق بما فيها من تشابهٍ واختلاف يدلنا على وحدة الصانع.

هناك مسلمون مؤمنون بأن التطور كان أداةً للخلق، وهناك من لا يؤمن بذلك، والعلم عند الله، ولو اختلفنا أو اتفقنا على أن التطور حصل بالفعل، فآلية حصوله بدون مسبب غير ممكنة والتصميم الدقيق للخلق والكون من حولنا يستحيل أن يأتي من الصدفة والعدم، وإنما ذلك خلق الله.

ﵟهَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦ ۚ بَلِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِى ضَلَـٰلٍۢ مُّبِينٍۢ ﰊﵞ [لقمان]

عجائب صنعة الجمل الوحشي Camelus Ferus

الجمل الوحشي أو الجمل البري ذو السنامين، يقطن سهوب آسيا الوسطى، مهددٌ بالانقراض، يعيش أغلب أفراده في محميات طبيعية في الصين.

يتميز الجمل الوحشي بقدرته الهائلة على شرب الماء المالح، فجسمه قادرٌ على معالجة الماء المالح والتخلص من الملح الزائد فيه دون أن يتسبب ذلك بضررٍ للكلى. فهو الثديي الوحيد الذي يعيش على اليابسة ويستطيع شرب الماء المالح دون ضرر.

الجمل الوحشي

© Bactrian Camel — Wikipedia

الفراء والتعرق والحرارة العالية

إذا فكرت قليلًا في حاجتك للفراء، فأول ما سيخطر ببالك أنك بحاجةٍ له للدفء، وهذا ما تراه في الكثير من الحيوانات التي تعيش في المناطق الباردة، فقد أعطاها الله ﷻ فراءً سميكًا وكثيفًا لتتحمل البرد القارس. ولكن، عندما تتأمل في الإبل ستجدها تملك أيضًا فراءً كثيفًا وسميكًا مع أنها تعيش في الغالب في المناطق الحارة جدًا والصحاري. فلماذا أعطى الله ﷻ الإبل فراءً بهذا الشكل؟ أليست بحاجةٍ لأن تطرد العرق من جسمها وتبخره لكي يبرد ويحافظ على حرارة مستقرة كباقي الثدييات؟ لا يا عزيزي، وهنا تكمن المعجزة، فالإبل لا تحافظ على درجة حرارة معينة لجسمها، وإنما تتحمل أن تتفاوت حرارتها الداخلية بين ٣٤ درجة مئوية صباحًا و ٤٠ درجة مئوية ظهرًا. للمقارنة، لو وصلت حرارتك إلى ٤٠ كل يوم فأنت بحاجةٍ ماسةٍ لزيارة الطبيب لأنك في خطر! وأغلب الثدييات كذلك تحافظ على درجة حرارة مستقرة لجسدها دون الأربعين درجة مئوية. أما الغاية من الفراء السميك فليست التدفئة، بل التبريد! فالفراء يعمل كعازلٍ يبقي الحرارة العالية بعيدةً عن الجلد مما يقلل من تأثر الإبل بالحرارة من حولهم. هذان الأمران - الفراء السميك والحرارة المتقلبة - سمحا للإبل بالحد من حاجتها للتعرق، وبالتالي المحافظة على الماء في جسدها. في الواقع، لو قصصت فراء الإبل فستحتاج للتعرق بشكل أكثر لتحافظ على حرارتها، مما يفقدها الماء بسرعة.

إضافةً لذلك، فهنالك عدة عوامل أخرى في خلق الإبل جعلتها تتحمل الحرارة العالية من حولها: كسيقانها الطويلة التي تبعد جسدها عن الأرض مما يبعدها عن انعكاس الحرارة على الرمال، وتركّز الدهن في جسدها في السنام عوضًأ عن تغليفه لباقي الجسد كغيرها من الثدييات، مما يمنع الدهن من القيام بوظيفته كعازل يبقي الحرارة داخل الجسم، والخف الدهني الذي يعزل القدم عن حرارة الرمال إضافةً لزيادته لمساحة القدم مما يمنع الساق من الغوص في الرمال، والجلد المتقرن على أكواعها وركبها الذي يعزلها عندما تجلس على الأرض، والجلد المتقرن على بطنها الذي يرفع جسدها عن الأرض قليلًا ليسمح للهواء بالمرور بين جسدها وبين الارض مما يحميها من الحرارة.

قدم وركبة وكوع وصدر الإبل والجلد المتقرن عليها

© The Camel — Stichting Dalèl

الإبل والماء

خلق الله ﷻ الإبل بإبداعٍ شديدٍ جعل منها كائناتٍ شديدة المحافظة على الماء في أجسادها، وذلك لشح الماء في المناطق التي تعيش فيها.

أغلب الثدييات تموت عندما تفقد ١٥٪ من الماء في أجسادها، بينما تستطيع الإبل خسارة ٣٠٪ من الماء دون أن تكون في خطر. وعندما تجد الماء فهي تستطيع شرب ١١٤ لترًا من الماء دفعة واحدة، وللمقارنة، لو شربت أنت ٤ لتر دفعةً واحدةً ستموت من انحلال الشوارد في دمك! وبالحديث عن الدم، فكريات الدم الحمراء للإبل لا تشبه غيرها من الكائنات، فبدلًا من أن تكون كالأقراص فهي متطاولة أكثر، وذلك لسهولة مرورها داخل الأوعية الدموية عندما يصبح الدم سميكًا بعد فقدان الماء، فلو كانت أقراصًا لتجلطت بسهولة وسدت الأوعية الدموية.

سنام الجمال تخزن الدهن الذي تستعمله للطاقة، وتنتج عملية حرق الدهون ماءً كمنتج ثانوي، والأدهى من ذلك أن حرق ١ غرام من الدهن ينتج ١,١ غرام من الماء، أي أنّ تخزين الدهن في السنام أفضل بنسبة ١٠٪ للجمل مما لو أنه خزن الماء فيها!

للحفاظ على الماء أيضًا، أعطى الله ﷻ الإبل كلىً تملك القدرة الهائلة على امتصاص الماء عند تكوين البول، لدرجة أن بول الإبل يخرج كالشراب اللزج من قلة الماء فيه، وأما الأمعاء فهي تمتص الماء أيضًا بشكل كبير جدًا لدرجة أن براز الإبل يخرج منها من دون رطوبة تذكر، ولهذا يستخدمه البدو والرعاة كوقود للنار مباشرة دون الحاجة لتجفيفه.

إضافةً إلى ما سبق، فمعلومٌ أنّ الثدييات تفقد الماء عند التنفس على شكل بخار ماء مع كل زفيرٍ، ولذلك أعدّ الله ﷻ للإبل أيضًا في أنوفها ما يحافظ على الماء قدر الإمكان. فتحات أنوفها تشبه المتاهة من الداخل، مليئة بالدهاليز التي تعمل على تقطير الماء من بخار الماء الخارج مع الزفير لتعيده إلى الجسم. كما أنّ الجمل يتنفس بهدوء وبعمق مما يخفف من بخار الماء الخارج مع الزفير أيضًا.

الفم والمنخر والعيون

أعطى الله ﷻ الإبل أيضًا ما يعينها على العيش في ظروف قد تكون أقسى من العيش على المريخ. فزودها بفم مليء بالاستطالات اللحمية التي تعينها على أكل النباتات الشوكية دون أن تتأذى، وزوّد مناخرها بعضلات تسمح لها بإغلاقها بشكل محكم عند هبوب عاصفة رمليةٍ لتبقي الرمل خارج أنفها. أما الأعين، فأعطاها الله ثلاثة أزواج من الجفون التي تغلف العين لتحميها من أشعة الشمس الحارقة ومن الرمال العاصفة فتغلقها بإحكامٍ شديدٍ يمنع الرمل من دخول العين ولكن يسمح للضوء بالدخول حتى وهي مغلقة، فتستطيع رؤية طريقها أثناء العاصفة ولو بشكلٍ طفيفٍ.

ﵟأَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَيۡفَ خُلِقَتۡ ﰐﵞ [الغاشية]

الوثائقي

يمكنكم مشاهدة الوثائقي هنا.