قرأ الإمام في صلاة الجمعة بسورة الماعون، سمعتها من قبل كثيرًا وقرأتها من قبل كثيرًا وسمعت دروسًا حول معانيها والتفكر فيها 1,2 ولكني مع ذلك فهمتها اليوم بشكلٍ مختلفٍ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ١ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ٢ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ٣ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ٤ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ٥ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ٦ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ٧ ﴾ [الماعون] الآية ١ إلى ٧
تدبّرها بشكلٍ عامٍ
بشكلٍ مختصرٍ، هذه السورة تربط بشكلٍ عظيمٍ بين الإيمان وأصغر الأفعال والأخلاق. عادةً ما ترى الإيمان يرتبط بالأمور العقدية، كالإيمان بالقضاء والقدر، باليوم الآخر، بصفات الله ﷻ وبالنبوة. إلا أنّك ترى في هذه السورة ربطًا مختلفًا بين الإيمان وأصغر الأعمال، والسورة ترسم لك بإعجازٍ عظيمٍ مشهدًا في سبع آياتٍ.
تبدأ السورة بسؤالٍ الغرض منه لفت الانتباه ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ١ ﴾ لتقول لك “انظر، سأريك من الذي يكذب بدين الله ﷻ”، ستظن أنها ستقول لك عن الكفار وعن من يعبد الأصنام وغيرها، إلا أن الآية التي تليها تقول لك ﴿ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ٢ ﴾ لتريك أن كل من يزدري يتيمًا أو يتوانى عن مساعدته وينهره لو طلب منه شيئًا فهو مكذبٌ بدين الله ﷻ، فترسم لك هذه الآية مشهدًا لشخصٍ ينهر يتيمًا ويبعده من وجهه ويقول له “دعك من وجهي” ويمشي تاركًا اليتيم مكسور الخاطر والجناح، فاليتيم لا سند له، لا أب له، والأب سندٌ يحمي أولاده من الحاجة، فمن مات أبوه وجب على المؤمنين أن يكونوا آباءً له. ثم ينتقل المشهد إلى شخصٍ آخر ﴿ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ٣ ﴾ يعلم أن جاره من المساكين فلا هو يساعده ولا هو يبحث له عمّن يساعده، وهذا أيضًا يكذب بالدين، فالمسكين هو الشخص المحتاج لأن ليس لديه سوى قوت يومه، لا تبدو عليه الحاجة، ولكنه يعيش في خوفٍ شديدٍ يوميًا من أن يحتاج شيئًا فلا يستطيعه. فمعرفة هذا الشخص أن جاره محتاجٌ توجب عليه أحد أمرين، إما أن يساعده هو، أو إذا تعذرت عليه المساعدة فعليه حضّ الناس على مساعدته، ففي صحيح الألباني أن رسول الله ﷺ قال (ليس المؤمنُ بالذي يشبعُ وجارُه جائِعٌ إلى جنبَيْهِ) فالإيمان يوجب عليك مساعدة المساكين. ثم ينتقل المشهد ليرينا أناسًا من رواد المساجد، محافظين على الصلاة بشكلٍ مستمر فهم من المصلين ولكن مع ذلك فهم مصيرهم الويل، والويل وادٍ في جهنم ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ٤ ﴾ ، فلم أوردهم الله ﷻ ذلك الوادي؟ يأتيك الجواب في الآيات الثلاث التي تليها فهم في صلاتهم كأنهم ليسوا في الصلاة، ساهين عنها يفكرون بدنياهم، ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ٥ ﴾ ، وصلاتهم هذه رياءٌ للناس ليس فيها إلا الشيء القليل لله ﷻ، ﴿ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ٦ ﴾ ، فصورتهم أمام الناس أهم عندهم من صورتهم أمام الله وأمام أنفسهم، يريدون أن يقول الناس عنهم أنهم من المصلين ومن عمّار المساجد، أما صفتهم الأخيرة فهي أنهم لا يفعلون الخير مهما صغُر، ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ٧ ﴾ ، فلو طُلبَ منهم ما يعين أحدًا ولو على سبيل الاقتراض، رفضوا بشتى الطرق، فالماعون من المعونة وهي أصغر الأشياء التي تعين الناس على قضاء حوائجهم، كأن تعطي جارتكِ بصلةً، أو حتى حفنةً من الملح، أو أن تقرض جاركَ مفكًا أو منشارًا، هل تتخيل أن عملًا كهذا يدخلك في زمرة المؤمنين أو يخرجك منها إلى زمرة المكذبين بالدين؟!
هذه السورة عظيمةٌ ربطت بسبع آياتٍ قصيراتٍ الدين والإيمان بالدين وبالله واليوم الآخر بأبسط أعمال الخير، وربطت بين تصرفات المؤمنين تجاه المحتاجين والضعفاء من محيطهم وبين دخولهم الجنة أو النار، فلم تذكر لنا السورة أي شيءٍ عن الكفار والمنافقين، كانت تنزيهًا لنفوس المؤمنين ومنهاجًا لهم لتغيير مجتمعهم والقيام به بالشكل الأمثل. في آياتٍ أخرى من سورٍ أخرى حث الله المؤمنين على القيام بنصرة اليتامى والضعفاء فقال تعالى ﴿ ... وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ... ﴾ [النساء] الآية ١٢٧ والقيام هنا يريك أن المؤمنين يشتغلون بنصرة اليتامى، فليست نصرتهم بالكلام من بعيد. وقال تعالى ﴿ ... ۗ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ... ﴾ [البقرة] الآية ٢٢٠ وقال ﴿ كَلَّا ۖ بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ١٧ ﴾ [الفجر] الآية ١٧ وقال ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ٩ ﴾ [الضحى] الآية ٩، كل هذه الآيات وغيرها تدلك على عِظَمِ مكانة اليتيم في الإسلام، وأنه بابٌ من أبواب دخول الجنة، وأن ترك اليتيم أو الإساءة إليه بابٌ من أبواب دخول النار والعياذ بالله.
المزيد من التأملات والتدبرات في هذه السورة العظيمة في الفيديوهات التي وضعتها في أسفل المقالة، فعطايا القرآن لا تنتهي ولن يكفي هذه السورة مقالةٌ ولا أكثر.
تدبّرها بشكلٍ خاصٍ في أيامنا هذه
عند سماعي لهذه الآيات في صلاة الجمعة، لم أستطع إلا أن أتخيل أهل غزةٍ والحصار المطبق عليهم من الحكام العرب حولهم، حكامٌ يدّعون أنهم من المصلين والله أعلم بصلاتهم وهل فيها من الرياء من شيءٍ، ولكنهم وبكل وضوحٍ يعينون العدو على حصار إخوانهم وقتلهم وتجويعهم وتشريدهم، فهم بعملهم هذا يدعّون اليتيم ولا يحاضّون على طعام المسكين ويمنعون عنهم حتى أقلّ القليل فيمنعون الماعون. شعوبهم تقف مغلوبةً على أمرها لا تستطيع حراكًا ولا تستطيع نصرةً مهددين بالاعتقال والإخفاء والتعذيب. حكامٌ ينامون (أو بزعم ملئهم لا ينامون) وهم يعرفون أن جيرانهم جائعين، وهم يعرفون أن يدهم بيد عدوهم يمدونه بالسلاح والمال والاستثمارات، فكيف لهؤلاء “المصلين” أن يدخلوا الجنة؟!ّ فكيف لهم أن يزعموا إيمانهم بالدين وبيوم الدين؟ ﴿ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ٣٣ وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ٣٤ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ٣٥ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ٣٦ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ٣٧ ﴾ [الحاقة] الآية ٣٣ إلى ٣٧ فبإذن الله سيكونون من أصحاب الشِّمال ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ٢٥ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ٢٦ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ٢٧ مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ ٢٨ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ٢٩ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ٣٠ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ٣١ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ٣٢ ﴾ [الحاقة] الآية ٢٥ إلى ٣٢.
هذا عن الحكام، أما نحن فعلينا أن نتوخى الحذر وأن نجعل من هذه السورة طريقًا إلى الجنة، فعلينا أن نساعد أهلنا في غزة بأي إمكانياتٍ لدينا، بالقليل والكثير، علينا الحضّ على إطعامهم وإنقاذهم، علينا الدعاء لهم يوميًا، علينا ألا نتركهم لوحدهم، حتى نأتي يوم القيامة بعملٍ ونيةٍ خالصين لله عز وجل لا مستسلمين لعجزٍ فرضه الحكام علينا، أقل القليل ينجيك من أن تكون من فئة هؤلاء الذين يمنعون الماعون.
-
تأملات في سورة الماعون | #خطبة_جمعة | د . حازم شومان أنصح بهذه الخطبة كثيرًا ففيها معانٍ شاملةٌ لهذه السورة ولغيرها. ↩︎