النباتات … تلك الكائنات الغريبة
لطالما كان من الغريب عليّ تقبّل فكرة أنّ الأشجار والنباتات كائناتٌ حيّةٌ، فقد كنت أعتقد أنّ الكائنات الحيّة هي فقط تلك القادرة على الحركة، علمًا أنّ التعليم لم يقصّر في إخباري بأنّ النباتات كائناتٌ حيّةّ، إلّا أنّ الفكرة بحدّ ذاتها غريبةٌ بعض الشيء. فالأشجار والنباتات في الغالب لا تتحرك، لا تصدر أصواتًا، لا تبدو وكأنّها تشعر بشيءٍ، لا تتواصل مع بعضها البعض، لا تربّي أبناءها ولا ترعى بذورها حتّى تنمو، أليس من الغريب والمثير قولنا أنّ النباتات كائناتٌ حيّةٌ؟ لك أن تتخيل منظوري كطفلٍ لهذه النباتات عندما أقارنها بالقطّة التي تلعب مع أطفالها بين الشجيرات!
الأغرب من ذلك حقيقةً هو قلّة ما نعرفه نحن عن حياة هذه الفئة من الكائنات الحيّة! نعم لديهم حياتهم الخاصّة ونعم نعرف الكثير عنهم لكن ما زلنا نجهل الكثير الكثير عن أسلوب عيشهم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض.
النباتات تتواصل مع بعضها البعض
فكرة تبادل المعلومات بين النباتات ليست بجديدةٍ، فقد اكتُشِفَتْ نباتاتٌ تقوم بإرسال إشاراتٍ تحذيريّةٍ كيميائيّةٍ عبر الهواء إذا تعرّضت للافتراس من قبل إحدى الحشرات أو الفايروسات، حيث تقوم النبتة الضحيّة بإطلاق المواد الكيميائيّة في الهواء، وعندما تلتقط النبتات الأخرى هذه المواد تقوم بإفراز موادٍ مضادةٍ للحشرات أو الفايروسات التي أصابت تلك الضحية، وبالتالي تصبح أوراقها وجذورها وسيقانها غير مستساغةٍ للكائن المعتدي. 1
بعض النباتات الأخرى تمتلك جذورًا أو سيقانًا مشتركة، تجعلها تنقل رسائل كيميائيّة أيضًا في حال هوجم جزءٌ منها لتحذّر الأجزاء الأخرى. 2
تجربة سوزان سيمارد
سوزان سيمارد (Suzanne Simard)، باحثةً في علم بيئة الغابات ومدرّسة في جامعة بريتيش كولومبيا (British Colombia).
كانت سوزان تعتقد كما الكثير منّا أنّ النباتات تتنافس مع بعضها البعض على الغذاء الموجود في التربة وعلى المساحة المخصّصة للنموّ خارج التربة، ولكن كان لديها شكّ أنّ النباتات لا تتنافس فقط، وإنّما تتواصل مع بعضها البعض وتتبادل الغذاء والمعلومات، وبشكلٍ كبيرٍ، وقد لفت انتباهها موت إحدى الأشجار الصنوبريّة عندما قُطِعت شجرة قضبانيّة بجانبها، إذ أنّه لا يوجد فيما نعرفه سبب يجعل الشجرة تموت إذا قُطِعت جارتها، لكنّ سوزان شكّت أنّ السبب على الأغلب أنّ الشجرة التي قُطِعت كانت تشارك جارتها بالغذاء.
رأت سوزان أنّه من الصعب على النباتات أن تتشارك الغذاء عبر الهواء، فلا بدّ أنّها تقوم بذلك عن طريق التربة، ولذلك قررت سوزان القيام بتجربة، فقامت بتغليف مجموعة من الأشجار في غابة بغلاف بلاستيكيّ يمنع الهواء من الوصول إليها، وقامت بترك بعض الأشجار دون تغليف، ثم قامت بنشر غازٍ يحتوي على نظيرٍ مشعٍ للكربون عند كلّ واحدة من تلك الأشجار غير المغلّفة، كان الغاز يحتوي نظيرًا مختلفًا عند كلّ شجرة، وبعدها تأكّدت من أنّ كلّ شجرة من الأشجار غير المغلفة قد امتصّت النظير المشعّ وأنّ الكربون المشعّ في الهواء قد أصبحت نسبته ضئيلة.
بعد فترة اكتشفت سوزان شيئًا مبهرًا، ألا وهو أنّ الكثير من أشجار تلك الغابة أصبحت تطلق الإشعاعات، أي أنّها أصبحت تحتوي على بعض ذرات الكربون من أحد النظائر المشعّة، فكيف حصل ذلك؟ لا بدّ أنّ الأشجار التي امتصّت النظير المشعّ قامت بنقله لباقي الأشجار، ولكنّ الأشجار الأخرى مغلّفة بالبلاستيك، فلا بدّ من أنّ الانتقال حدث داخل التربة!
اكتشفت سوزان أيضًا أنّه كلّما كانت الشجرة معمّرة أكثر كلّما زادت علاقاتها مع الأشجار الأخرى، فالأشجار الصغيرة نقلت ذرات نظير الكربون المشعّ الذي امتصّته إلى عددٍ قليلٍ من الأشجار، بينما قامت تلك الأقدم والأكبر سنًا بنقله إلى الكثير من الأشجار، إحدى تلك الأشجار في الواقع استطاعت إيصال نظير الكربون المشعّ إلى ٤٧ شجرةٍ مختلفةٍ!
شبكة الاتصالات وسوق التجارة في عالم النباتات
اكتشف العلماء لاحقًا وجود شبكةٍ كبيرةٍ تربط الأشجار مع بعضها البعض، شبكة طويلة جدًا ومعقدة جدًا تشبه بتعقيدها شبكة الإنترنت! هذه الشبكة بالكاد ترى بالعين المجردة، والأغرب من ذلك أنّ هذه الشبكة ليست من صنع النباتات وإنما من صنع الفطريّات!
تشكّل الفطريّات خيوطًا دقيقة جدًا لونها أبيض، تتصل هذه الخيوط بجذور النباتات، تقوم الفطور بامتصاص الأملاح من التربة بشكل أفضل بكثير من جذور النباتات، وأنّ معظم الأملاح التي تسهلكها النباتات تمتصّها الفطريات وتعطيها للنباتات عن طريق الجذور، وبدون هذه الفطريات فإن النباتات لن تستطيع النموّ لأطول من قدم واحدة عن الأرض (تقريبًا ٣٠ سم). تكون هذه الخيوط مفرغة كالقش فتعطي النباتات أنابيبًا وخطوطًا لتحصيل الغذاء.
قد تتساءل لماذا تقوم الفطريات بهذه المهمة الشاقة عوضًا عن النباتات؟ لماذا تعطي هذه الفطريات الأملاح للنباتات؟ ما الذي تجنيه الفطريات من هذه العملية في المقابل؟ والجواب هنا أن الفطريات تحتاج موادًا لا تستطيع تركيبها بذاتها، ألا وهي السكريات، فهي تقوم بإعطاء النباتات الماء والأملاح من التربة وتأخذ في المقابل السكريات، إنها عملية تجارية ناجحة تضمن بقاء الطرفين وفائدتهما.
تعطي الأشجار ما يتراوح بين ٢٠٪ إلى ٨٠٪ من إنتاجها من المواد السكرية للفطريات، وفي المقابل تحصل على ما تحتاجه من الماء والأملاح. هذه نسبة ضخمة جدًا!
ترتبط الفطريات بجذور النباتات، تقترب من تلك الجذور وتقوم بإفراز مواد كيميائية عند خلايا الجذور، فتقرأ خلايا الجذور تلك المواد الكيميائية كأنها رسائل للتفاوض، وفي حال كانت الشجرة بحاجة للفطريات (وهي الحالة الغالبة) فإن خلايا الجذر تفرز موادًا تجعل جدرانها طرية بما يكفي لأنبوب الفطر ليمتد داخلها ولتبدأ عملية التجارة.
الفطريات تقوم بالصيد والنباتات تأكل السمك
أما بالنسبة لما الذي يجعل الفطريات أفضل من النباتات في الحصول على الأملاح والماء، فإن الجواب هو أن النباتات تستطيع امتصاص المواد الغذائية فقط عن طريق أطراف الجذور وليس عن طريق كامل الجذور، وهذا لا يكفيها أبدًا، ولذلك فهي بحاجة لمساعدة الفطريات. إضافةً إلى أن جذور النباتات لا تستطيع البحث عن المواد ولا التحرك ضمن التربة، بينما في المقابل فالفطريات تستطيع التقاط الأملاح بشكل عملي جدًا وتستطيع التحرك بحرية داخل التربة.
لكي يجد الفطر الأملاح فإنه يتحرك داخل التربة جيئةً وذهابًا حتى يصادف حجارة، ومن المعروف أن الحجارة هي تكتلات من الأملاح، فيقوم الفطر بإفراز مواد حمضية تفكك تلك الحجارة، وبالتالي يستطيع الحصول على الأملاح وتوصيلها إلى النباتات.
ومن المثير أيضًا للاهتمام أن تلك الفطور تطورت حتى تستطيع الصيد، فهي قادرة على ملاحقة بعض الحشرات والديدان الصغيرة داخل التربة، وهي قادرة أيضًا على معرفة ما إذا كانت تلك الحشرات على قيد الحياة أم لا، وفي حال موت الحشرات تقوم تلك الفطريات باختراق أجسادها وامتصاص المواد المغذية من أجسادها الميتة.
وفي بعض الحالات اكتُشِفَت فطريات تستطيع امتصاص المواد المغذيّة من جثث الحيوانات الميتة المنتشرة في التربة، ففي ألاسكا في أمريكا الشمالية وجدت أشجار تحتوي على نيتروجين يعود أصله إلى لحوم الأسماك، وقد وصلت نسبة النيتروجين السمكي في بعض الأشجار إلى ٧٠٪ من ما تحتويه تلك الأشجار من النيتروجين، وذلك لأن الدببة تكثر في تلك المنطقة وتصطاد أسماك السلمون وتقوم برمي الكثير من جثثها على التربة. 3 هل كان يخطر ببالك أنك بأكلك لبعض هذه النباتات تكون قد أكلت السمك؟
النبات يستورد السكريات ويصدّرها والفطريات تقوم بدور الوسيط
اكتشف العلماء أيضًا أنّ النباتات التي تملك فائضًا من إنتاج السكريات تقوم بإرسالها إلى الفطريات، وتقوم الفطريات بدورها بنقل هذه السكريات فيما بينها وتتغذى عليها، إضافةً إلى أن الفطريات تستطيع معرفة ما إذا كانت هنالك شجرة مريضة أو بحاجة للسكريات فتقوم بإيصال السكريات لها.
تعمل الفطريات هنا عمل المصْرِف أو الوسيط التجاري، فهي تخزن السكريات الفائضة، وتوزع السكريات على النباتات المحتاجة، وترعى النباتات المريضة، حتى أنها في بعض الأحيان تقوم بإعادة توزيع السكر بحيث تعطي الأولوية للنباتات الصغيرة الجديدة، فلربما كانت الأجيال القادمة من النباتات أفضل من الأجيال السابقة وأكثر قدرة على التأقلم مع الوسط المحيط، هذه الفطريات ذكية جدًا وتخطط لمستقبلها!
شبكة الحالات الطارئة
أحد الاستخدامات العديدة أيضًا لشبكة الفطريات هو نشر الرسائل والإنذارات بين النباتات، فعندما تتمّ مهاجمة نبتة من النباتات، تقوم هذه النبتة بإرسال رسائل كيميائيّة عبر شبكة الفطريّات لتنبّه باقي النباتات. كما أنّ النباتات التي تشعر بأنّها ضعيفة جدًّا ولن تستطيع العيش أكثر من ذلك تقوم بإعطاء الكربون والسكّر الذي تملكه لشبكة الفطريّات، واثقةً من أنّ الفطريّات الذكيّة ستعطي هذه السكريّات لمن يحتاجها أكثر من هذه النبتة.
الخلاصة
شبكة الفطريّات المنتشرة بين جذور الأشجار تعمل بشكل ذكيٍّ وخارق، تصل النباتات ببعضها البعض، تساعد النباتات على امتصاص ما تحتاجه من غذاءٍ من التربة، تقوم بتوزيع الغذاء بين النباتات، ترعى النباتات المريضة، توزّع ميراث النباتات الميتة، تصطاد الحشرات والديدان، تثقب الحجارة، تصطاد الأسماك، توصل الرسائل.
هذه الفطريّات تجعل من نباتات الغابة وأشجار الغابة جزءًا من كائنٍ حيٍّ كبيرٍ جدًا، أكبر بكثير ممّا نتخيّل، هذه الفطريّات أساسيّةٌ للحياة!
لقد رأيت الفطريّات!
لقد كُنتُ محظوظًا إذ أنّني استطعت أن أرى الفطريّات تلك بعيني ضمن حوضٍ صغيرٍ للزراعة أستخدمه في منزلي
المصدر
اقتبست وترجمت هذه المقالة من حلقة من حلقات برنامج راديولاب.
راديولاب (Radiolab) هو برنامجٌ إذاعيٌّ يُبَثّ في الولايات المتحدّة الأمريكيّة، كما ويقوم البرنامج بنشر تسجيل حلقاته على شبكة الإنترنت (بودكاست Podcast)، يُعنَى البرنامج بالعلوم بشكلٍ عامٍّ، ويتناول العديد من المواضيع العلميّة الشيّقة والحديثة، أنصح بمتابعتهم لمن كان يهتمّ بالعلوم والمعرفة، حلقاتهم لا تزيد عن ٤٥ دقيقة عادةً، وتُعتَبَر مصدرًا جيّدًا جدًّا للمعلومات العامّة برأيي الشخصي.
يمكنك الاستماع إلى الحلقة من مشغّل الوسائط أدناه، أو بزيارة موقع راديولاب.