في الأسابيع الماضية حصلت عدة مواقف لي في العمل أزعجتني، هذه المواقف كلها كانت مرتبطة بشكل مباشر بإسرائيل، كان ذلك مصادفة يحصل أثناء ما حصل من حصار للأقصى ومرابطةٍ لأهله على أبوابه، الأحداث غير مرتبطة ببعضها أبداً ولكن الصدفة جمعتهم في وقت واحد.
ملاحظة لا بد من ذكرها: ما كتبته هنا يعبر عن رأيي الشخصي وليس رأي الشركة التي أعمل بها، ولا علاقة لهم بكتابتي لهذه المقالة، ولا أهدف لأن أتحدث عن الشركة وإنما عن سياسات إسرائيل ومواطنيها.
توطئة بسيطة عن عملي
أعمل في شركة بوكينغ، شركة عالمية يعمل بها أكثر من خمسة عشر ألف موظف في سبعين دولةٍ حول العالم، منتجها الأساسي هو موقع لبيع الحجوزات الفندقية في أغلب دول العالم، حيث يصل ما يباع يومياً على الموقع إلى ١,٢ مليون ليلة فندقية. الشركة تعتبر الآن صاحبة الموقع الأول في العالم للحجوزات الفندقية، حيث تتوزع الفنادق والشقق التي على الموقع بين ٢٢٥ دولة حول العالم ويصل عددها إلى ما يقارب المليون ونصف المليون عقار.
لدى الشركة مكاتب كثيرة حول العالم، يصل عددها إلى ما يقارب ١٨٧ مكتباً، أغلبها لخدمة العملاء وخدمات الشراكة مع العقارات المحلية، أما بالنسبة لمكاتب أمستردام ولندن وشانغهاي وسياتل فهم المكاتب الوحيدة -على حد علمي- التي تحتوي على أقسام للتطوير والدعم البرمجي، ويعد مكتب أمستردام المكتب الرئيسي حيث يعمل فيه غالبية المهندسين والمطورين، بينما تعد المكاتب الثلاث الأخرى مكاتب دعم وتطوير مختصة بمناطقهم -مكتب شانغهاي يختص بمنتجات الشركة التي تخدم العملاء في شرق آسيا مثلاً-.
الهدف مما سبق ليس الدعاية أبداً، وإنما معرفة أن الشركة ضخمة جداً وباقتصاد كبير، وتعتبر لاعبة أساسية في الاقتصاد السياحي لبعض الدول.
الموقف الأول
في الربع الثاني من عام ٢٠١٧، وفي اجتماع قسم تقنية المعلومات ربع السنوي، أعلن مدير القسم التقني عن نيّة الشركة افتتاح مكتبٍ تقنيٍ جديد في تل أبيب في إسرائيل، وذلك دون إعطائنا -كموظفين- الكثير من المعلومات عن الموضوع، كما تم الإعلان عن استحواذ الشركة على شركة ناشئة هناك تتخصص في الذكاء الصنعي ومعالجة اللغات الطبيعية.
جاء القرار من الشركة مفاجئاً وفي وقت غريب، لا سيما وأنه جاء بعد أن تم إغلاق أحد المكاتب التقنية في سياتل ونقل جميع موظفيهم إلى أمستردام، فالشركة كانت وما زالت تستقطب التقنيين من أنحاء العالم لمكتبها في أمستردام، ولم تكن يوماً من مشجعي افتتاح مكاتب تقنية متعددة حول العالم، بحجة أن وجود التقنيين في نفس المكان يعزز من قدرتهم على إنجاز الكثير مع بعضهم البعض دون عوائق المسافة والفاصل الزمني بين المكاتب المتباعدة. بعد الاجتماع بعدة أسابيع جاءتنا تفاصيل افتتاح المكتب على موقع التواصل الاجتماعي الخاص بالشركة -نسخة من فيسبوك مخصصة للشركات لتواصل الموظفين فيما بينهم-، لم تكن التفاصيل كافية لمعرفة سبب اختيار تل أبيب أو حتى سبب التحول المفاجئ في عقلية الشركة وقبولها افتتاح مكتب تقني بعيد عن مكتب أمستردام.
من أحد أهم فلسفات العمل ضمن الشركة هو اعتمادها الكبير على القرار المدعوم بالبيانات، فكل قرار وكل ميزة صغيرة أو كبيرة، في أي منتج أو حتى في القرارات الداخلية، كلها تخضع لنفس الشروط، يجب على من يأتي بالقرار أن يدعم قراره ببيانات تشير إلى صحة ما يزعمه، فلا يمكن لي أن أقرر أن أغير لون زر البحث إلى الأخضر دون أن أقوم بتجربة أثبت فيها أن اللون الأخضر يزيد من احتمالية أن يقوم المستخدم بحجز فندق أكثر من اللون الحالي. وهذه الفلسفة ما تجعل من الجميع مسؤولين عن البحث عن البيانات وطلبها، حتى لو كان القرار من الإدارة، فالإدارة تشجع الموظفين على الاستفسار والتساؤل بخصوص أي شيء، لأن ذلك يعزز من إنتاجية الشركة.
قمت بالتعليق على الخبر، مطالباً الشركة بأن تشرح لنا لماذا تم اختيار إسرائيل بالذات لهذا المكتب، موضحاً ضمن تعليقي أن الشركة ليست صغيرة، وافتتاحها لمكتب تقني في إسرائيل لا بد أن يتم بالتعاون مع حكومة إسرائيل، ولا بد من أن يكون له انعكاسات على اقتصاد إسرائيل. وبما أن الشركة عالمية ولدينا الكثير من الموظفين كان لا بد لي من الابتعاد عن النقاش السياسي في قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والابتعاد عن الدخول في السياسات الدولية لإسرائيل، فقمت بذكر أنني لا أريد الخوض في نقاش مع أحد حول أحقية إسرائيل أو فلسطين بالأرض، وإنما اعتراضي الأساسي هو أن حكومة إسرائيل حكومة عنصرية ذات جرائم حرب معروفة، وأنني كموظف لا أرضى أن ندعم الحكومة هذه أو نتعامل معها بشكل يفيدها اقتصادياً أو سياسياً، وذكرت لهم أنني وفي حال كان المكتب الذي سيفتتح في دمشق بدلاً من تل أبيب لقلت نفس الكلام عن النظام السوري، لمعرفتي التامة بأن الشركة لو أرادت افتتاح مكتبٍ في دمشق لاضطرت لدعم النظام السوري الذي يعد نظاماً عنصرياً ذا جرائم حرب أكيدة. طبعاً كل ذلك وأنا أحاول أن أنمّق كلامي لكي لا يظهر أنه تهجم على أحد، بل على شكل تساؤل لمعرفة البيانات وراء القرار هذا.
جاءني الرد من أحد أعضاء الإدارة أن الشركة لا تتدخل في السياسة وأن هذا المكان -موقع التواصل الاجتماعي الداخلي- ومكان العمل لا يسمح بالنقاش السياسي فيهما. دون أي تعليق آخر ودون أية مبررات أو أية بيانات. لاحقاً في نفس الأسبوع اجتمعت مع مديري في العمل، وأخبرته بعدم قبولي لرد الإدارة، وأنني لا زلت أنتظر البيانات، فأخبرني أنني بذلك قد أؤذي صورتي أمام الإدارة وأن ذلك سيؤثر سلباً على مستقبلي ضمن الشركة، وشرح لي أن الموضوع معقد جداً وأن دخولي فيه لن يغير منه شيئاً وأنني الخاسر الوحيد في النقاش هنا. علماً أن مديري وضح لي أنه شخصياً ضد هذا القرار، وأنه -كأوكراني- ضد تعامل الشركة مع النظام الروسي الذي احتل جزءاً من بلاده، ولكنه يعلم أن الموضوع أكبر من تعامل ورقي، وفيه مصالح وسياسات كبيرة لا نستطيع كموظفين التدخل فيها.
جاء موعد تقييمي ربع السنوي، وفيه جاءت نقطة سوداء في ملفي أنني لم أكن أفكر جيداً حينما تحدثت عن مكتبنا في تل أبيب، وأنني لم أكن مثالاً جيداً للموظفين الآخرين، وأن الشركة مستعدة أن تقدم لي يد العون في حال أحببت أن أطور أسلوبي في النقاش والتواصل مع الآخرين. قالها لي مديري صراحةً، هذا مؤسف ومحبط، ولكن عليك أن تغير من نفسك، وبنتيجة ذلك فقد انخفض تقييمي نقطة عن التقييم الذي كنت أتوقع أن أحصل عليه. كانت الخطوة الأولى التي فعلتها بعدها أن أرسلت استبياناً لأكثر من عشرين موظفاً تعاملت معهم في ربع السنة الأخير، طالباً منهم أن يقيموا أسلوبي في التواصل والنقاش معهم، وبما أن الاستبيان لا يظهر لي من كتب التعليق ومن أجاب، فمن السهل عليهم أن يقولوا لي ما يرونه من سلبيات وعيوب، دون أن يخافوا أن تتغير علاقتي بهم. بفضل الله جاءت كل التعليقات إيجابية، وكان الجميع يرفض فكرة أنني قد أهين الشخص الذي أتحدث إليه أو أن أكون قاسياً وعنيداً في رأيي.الجيد في الأمر أن نتيجة الاستبيان تصل إلى مديري، الذي بدوره تفهم الموضوع واتصل بي في اليوم التالي وأخبرني أنه فكر ملياً فيما قاله لي، وبنتيجة الاستبيان، وأنه ليس من العدل أن أعامل بهذه الطريقة، وقام بتعديل تقييمي ليصل للمستوى الذي توقعته في الأصل
الموقف الثاني
جاءنا الإعلان عن الشركة الناشئة التي استحوذت عليها شركتنا في تل أبيب، أيضاً بصيغة منشور على موقع التواصل الاجتماعي الداخلي، الشركة صغيرة جداً، أعتقد أنها مؤلفة من ٦ أو ٧ أشخاص على الأغلب، منتجهم صغير، وعند بحثي عن من يستخدم منتجاتهم لم أجد الكثير، لن أشير إلى الشركة بالاسم لأن الإعلان العام لم يُنشر بعد، ولكن يكفي معرفة أن الشركة ناشئة وصغيرة وذات منتج غير مشهور. على عكس الإعلان السابق، لم أعر هذا الإعلان اهتماماً، بل قررت الصمت.
هذه الشركة ليست الأولى من الشركات الناشئة الإسرائيلية التي تستحوذ عليها شركتنا أو المجموعة الأم لشركتنا، ولكن عادةً ما تكون نتيجة الاستحواذ أن ينتقل الفريق لينضم للفريق التقني في أمستردام، ويتم دمج منتج الشركة الناشئة ضمن منتجات شركتنا.
بعد فترة سمعت من أحد الأشخاص أن بعضاً من موظفي هذه الشركة الناشئة رفضوا ترك تل أبيب للعيش في أمستردام، وأن هذا أحد أهم الأسباب في افتتاح شركتنا للمكتب في تل أبيب. فعلى عكس الشركات السابقة، بدلاً من أن يأتي الفريق لينضم لنا في أمستردام، آثر بعضهم البقاء في تل أبيب، وتم افتتاح مكتب للشركة في تل أبيب، وسيتم نقل فريق تقني صغير ليبدأ العمل مع ذلك الفريق في تل أبيب.
الموقف الثالث
قامت الشركة في الأشهر الماضية بمسابقة للشركات الناشئة، المسابقة فيها جوائز مالية مجموعها ٢ مليون يورو للشركات الرابحة، إحدى الشركات المتقدمة كانت شركة ناشئة إسرائيلية، التقيت مع الشريك المؤسس لها ضمن برنامج أعمال المسابقة، حيث شرح لي المشاكل التقنية التي يعانون منها في الشركة، وقدمت له بعض النصائح ليتجاوزوا هذه المشاكل، إحدى النصائح كانت عن وجوب بنائهم لنظام تقني جديد لموقعهم أو استخدامهم لنظام آخر. لم تفز الشركة بأية جائزة ضمن المسابقة، ولم يعد لي أي اتصال معهم.
بعد أسبوعين من انتهاء المسابقة، وصلتني رسالة من المشرفة على المسابقة تطلب مني أن أطلع على وثيقة متطلبات لنظام تقني جديد، الوثيقة لتلك الشركة الإسرائيلية، حيث تطلب مني المشرفة أن أعطي رأيي فيما إن كان بإمكان شركتنا أن تقوم بتنفيذ النظام التقني -أو تخصيص النظام الذي لدينا ليناسب متطلباتهم-، علماً أن شركتنا لا تقدم خدمات تقنية لشركات أخرى. أجبت بأنني أولاً ليس لي دخل بسياسة الشركة وبهذا القرار، وثانياً بأن وثيقة المتطلبات كانت هزيلة جداً وغير واضحة ولا يمكن أن تكون وثيقة تربط بين الشركة الناشئة وأي شركة أخرى بشكل واضح. أتاني الجواب إن كنت أستطيع تعديل الوثيقة لتصبح بالشكل المطلوب الذي يضمن للشركة الناشئة الحصول على المنتج الذي يطلبون، لكن تحججت -كاذباً- بأني لا خبرة لدي بكتابة هكذا وثائق.
الموقف الرابع
قام موظف إسرائيلي بعد شهر من كتابتي لتعليقي على افتتاح مكتبنا في إسرائيل بالتعليق علي، وتهديدي بـ أنهم يعملون على إيقافي عن إهانة النظام الإسرائيلي وقوى الدفاع الإسرائيلية، وبأنني قد تجاوزت حدود الأدب بتعليقي الذي يصف الحكومة الإسرائيلية بالعنصرية واتهامي لهم بارتكاب جرائم حرب لا دليل لوجودها. تجاهلت الرد وأكملت عملي بشكل طبيعي.
في اليوم التالي راسلني أحد الأشخاص المسؤولين عن موقع التواصل الداخلي، وطلب مني تعديل ردي بما يتناسب مع سياسة الشركة بعدم الحديث عن الأمور الحساسة كالسياسة والعنصرية أو حتى الرياضة والفرق الرياضية، وكان الطلب يشمل إزالة المقطع الذي أتحدث به عن النظام السوري أيضاً، فالمهم عدم الخوض بالسياسة حتى لو كانت سياسة البلد الذي أنتمي أنا له، وأخبرني أن باقي الردود سيتم حذفها أو تعديلها بما يتناسب مع تعديلي لردي. وافقت على ذلك بعد أن حاولت أن أستفسر عن السبب، ليتبين أن تعليقي استقبل العديد من التبليغات بأنه مخالف للقانون، علماً انه قد مر عليه شهر، وأنني قد ناقشته مع مديري ومدراء آخرين دون مشاكل.
بعد يوم وصلتني رسالة بريدية من ذات الشخص الذي هدد بأنه سيوقفني عن إهانة إسرائيل، الرسالة كانت منمقة جداً بطريقة مقززة، تطلب مني أن أتعاطف معه حيث أنه فقد بعض أحبابه في إسرائيل بسبب الفلسطينيين، وبأنه فقد أصحاباً له في آخر عملية استشهادية في تل أبيب، وبأنه ينفي أن حكومته ملائكية، ولكنه ينفي أيضاً أن يكون الفلسطينيون ملائكة. أشار في رسالته أنني كنت في تعليقي قد أهنت حكومته وقمت بتذكيره بالصراع العربي الإسرائيلي، فحاول في أن يشرح لي أنه هرب من إسرائيل ليهرب من الصراع الذي يعتبره هو أنه صراع “غبي” وأنه لم يتصور أن يجد الصراع ممتداً إلى منصة التواصل في العمل. وفي النهاية تمنى لي “صديقي” أن أجد السلام وأن نكون أصدقاء.
رددت عليه بأن وجهة نظري بالتأكيد ليست بجديدة عليه، وبأني ضد إسرائيل وحكومتها، وأني ما زلت ضد افتتاح مكتب للشركة هناك، وأنني وجدت تعليقه مهيناً ومهدداً لي، وبأنه عليه هو الاعتذار، واعداً إياه ألا أتكلم في السياسة بعد الآن في منصة التواصل الاجتماعي، ومؤكداً له أن رأيي ما زال هو نفسه، وأنني لم أقصده بذاته وإنما بالتأكيد قصدت إسرائيل وحكومتها.
المحصلة والخلاصة
الحمد لله حتى الآن ليس هناك أي تأثير علي في العمل، ولكن أحببت أن أشارك القصة لكي أقول أن إسرائيل، ذلك الكيان الصغير جغرافياً، استطاع أن يربي أجيالاً على العناد، وعلى إظهار الضعف كوسيلةٍ للحصول على ما يريدون دون أدنى مشكلة، فالشركة التي استحوذنا عليها شركة صغيرة، لم يسمع أحد بها، منتجها غير مشهور، لا أعلم كيف وصلوا لإقناع شركتنا بمنتجهم وبأن نستحوذ عليهم، لا أدري أصلاً كيف سمعنا عنهم، وقد رفض بعضهم المجيئ إلى أمستردام ففتحنا لهم مكتباً عندهم، والشركة الناشئة الأخرى استطاعت بشكل ما تمرير طلبٍ لنظام برمجي جديد لشركتنا التي لا تقوم بأعمال كهذه أصلاً، وذلك الشاب الإسرائيلي استطاع إجباري على حذف وتعديل تعليقي بعد شهر، واستطاع الظهور بمظهر المفجوع المتألم بسبب تعليقي المثير للكراهية، والشركة رأت ذلك عيباً فيّ وقررت مساعدتي لـتحسين أسلوبي.
قد لا أؤمن بنظرية المؤامرة، وقد لا تؤمن أنت أيضاً بها، ولكني مدهوش مما وصلت إليه إسرائيل وشعبها، ومتأكد أنهم سيصلون إلى أكثر من ذلك بكثير…