الغباوة الجماعية وفرض الزيف

لماذا لا يعترض الناس على السائد الذي يبغضونه؟ لماذا يقومون حتى بالتهليل له؟ هل سبق لك أن كنت في صف، وسألتْ المعلمة إن كان من أحدٍ لم يفهم ما قالته؟ هل تذكر عندما رأيت الجميع لا يرفعون أيديهم بسؤال كيف أنك قررت ألا تسأل سؤالك، وأن تبقى في حيرةٍ من أمرك، وآثرت أن تمشي مع السائد خوفاً من الظهور كغبي أمام زملائك؟ دعني إذن أهنئك، فأنت طبيعي جداً! لا تقلق أبداً فسلوكك طبيعي، طبيعي لدرجة أن له مسمىً عند علماء النفس والاجتماع. إنه الغباوة الجماعية أو Pluralistic Ignorance.

إن حاجة الإنسان للانتماء والظهور بمظهر الموافق للجماعة أقوى بكثيرٍ من الأحيان من تمسكه بمبادئه ومن بحثه عن مصلحته. ففي مثالنا السابق عن المعلمة والطلاب، كل طالب لديه سؤال أو عصي عليه الفهم سينظر إلى باقي الطلاب فيرى أنهم لا يرفعون أيديهم بسؤال، فيخشى أن يظهر بمظهرٍ مختلفٍ عنهم برفع يده، وسيرضى بأن يبقى متحيراً بسؤاله لكي لا يخالف الجماعة، ظانّاً أنّ ما يشعر به هو يشعر به وحده، وأنّ الجماعة تشعر عكس ذلك تمام، ببساطة هذا هو تعريف الغباوة الجماعية. فضمن مجموعة قد يظن الأغلبية أنهم أقلية لأن أحداً منهم لم يظهر ما يدل على اختلافه عن السائد ظاهراً. وبالتالي لا أحد من الطلاب يرفع يديه بسؤال، الكل يظن أنه الوحيد الذي لديه سؤال، والمعلمة تظن أن الصف قد استوعب كل ما قالته دونما سؤال، ويتشارك الجميع في عيش كذبة كبيرة.

“a phenomenon in which you feel like you’re different from everyone else, but in fact you are exactly the same. It’s a kind of illusory deviance, a sense that you are not with the majority that everyone in the majority can have simultaneously.” ~ Psychologist Deborah Prentice
“ظاهرة تشعر فيها أنك مختلف عن الجميع، ولكنك في واقع الأمر مثلهم تماماً. هي انحراف تخيلي عن ركب الجماعة، تشعر أنك لست مع الأغلبية، وهذا الانحراف التخيلي لا تشعر به لوحدك ولكن الأغلبية تشعر به”. عالمة النفس دوبرا برينتس

قد يبدو لك تأثير هذه الظاهرة صغيراً في البداية، ولكنها تؤثر على نواحٍ عديدة في حياتنا، ففي كل جماعة أو مجتمع ننتمي له، عادةً ما نحاول التأقلم والتوافق مع ما هو سائد، حتى لو كنا لا نوافق عليه فعلاً، وذلك لأننا لسنا متأكدين إن كان أحدٌ ما يشاركنا الرأي نفسه، فحرصاً منا على عدم الحيد عن ركب الجماعة ندفن آراءنا الشخصية ونمضي مع ما لا نرضى به. وبهذا غالبية الناس تعيش بأفكار وعادات وتقاليد لا ترضى بها ولكنها تخشى أن تظهر بمظهر الخروف الأسود بين القطيع الأبيض. هذا التصرف ضمن المجتمعات له تأثيرات كارثية، فلك أن تتخيل كيف سيرى المسؤولون المجتمع الذي لا مشكلة لديه في تصرفات الحكومة، ولك أن تتخيل الشيء ذاته عن إدارات الشركات، عن شركات الإعلانات، كلٌ يرى المجتمع على عكس ما هو عليه بالحقيقة، وهذا ما يدفع بالتغيير لما وراء الأفق، فلن تغير الحكومة من تصرفاتها، ولن يغير المدير قراراته، ولن تعيد المعلمة شرح الدرس. هذا الوضع يمنع التنافسية أحياناً، فالحزب السائد سيرى نفسه قوياً، والحزب ذي الأقلية سيرى ألا دور له في الحياة السياسية، مما قد يجعله يوقف نشاطه ويمنع التغيير، حتى لو كانت غالبية الناس في واقع الأمر يريدون رؤيته مكان الحزب الحالي.

الحل قد يكون في أغلب الأحيان بسيطاً جداً، كأن تقوم بسؤال كل فرد على حده عن رأيه، وبعد الانتهاء من جمع الآراء تقوم بنشر الإحصائيات، كما يحدث في الانتخابات عادةً - ولو أنّ الانتخابات تسبقها حملات ودعايات وإحصائيات عن الاحتمالات وأشياء كثير ستؤثر على الرأي العام وتوجيهه -. بسؤالك المباشر لكل شخص بمعزل عن الجماعة، فأنت تخلق المكان الآمن لهم لإبداء رأيهم. أحياناً قد يكون الحل ببساطة أن تقول للجميع أنهم عليهم أن يشاركوا برأيهم وأن الموضوع لن يعود عليهم بالضرر، فخلق بيئة مناسبة للتعبير عن الرأي يلغي الحاجة لاتباع الرأي السائد. في أحيانٍ أخرى، يكفي أن يقوم شخص واحد بإبداء رأيه فينكسر الوهم ويتنفس الناس الصعداء كونهم ليسوا وحيدين، ويبدأ الجميع بإبداء رأيه. هذا ما نراه في قصة ثياب الإمبراطور، فالخياطين لم يحيكوا للإمبراطور شيئاً، وعندما خرج الإمبراطور عارياً أمام الجماهير، لم يجرؤ أحدٌ أن يقول شيئاً، ولكن عندما أشار طفل صغير للإمبراطور ضاحكاً أنه عارٍ، عندها فقط بدأ الباقون بالإشارة إلى ذلك.

ولكن في بعض الأحيان قد يتحول الموضوع إلى كارثة حقيقية، وقد يكون الحل صعباً وحتى مستحيلاً! فخوف الناس من الحيد عن مسار الجماعة يدفعهم أحياناً للتصرف بعدوانية تجاه أي شخص يحاول أن يغرد خارج السرب، حتى لو كانوا ضمنياً يوافقونه الرأي، فعوضاً عن تأييد ذلك الشخص والإفصاح بأن الأول يوافقه الرأي، تجد الأول يتهجم عليه وقد يتهجم الكثيرون عليه لمحاولة إسكاته. هذا ما حدث في عام ١٩٧٨ في مدينة جونزتاون الأمريكية، حينما طلب جيم جونز من ٧٠٠ شخص من أعضاء الجماعة الدينية التي أسسها في الخمسينيات أن يقتلوا أطفالهم البالغ عددهم ٣٠٠، ومن ثم يقتلوا أنفسهم بالسم. أعضاء هذه الجماعة، التي عرفت باسم معبد الناس People Temple، لم يعترضوا على كلام جيم، كانوا مقتنعين معه أن قتل أولادهم وأنفسهم هو الحل، ولو أن الكثيرين منهم لم يوافقوه الرأي، إلا أن أحداً منهم لم يتكلم. وعندما وقفت كريستين ميلر بين الجموع، متسائلةً إن كان بالفعل لا يوجد حل آخر لقضيتهم سوى قتل أنفسهم وأولادهم، هاجمها الباقون بشدة عوضاً عن تأييدهم لها، علماً أن حياتهم على المحك، ولكن تغلبت عليهم الغباوة الجماعية وتحولت من ظاهرة يمكن حلها بالكلام إلى ظاهرة عدوانية أخرى تدعى بفرض الزيف False Enforcement، فهم فرضوا بالقوة الزيف القائل أن الجميع يوافق جيم الرأي. بعد إسكاتهم لكريستين قام ما يزيد عن ٩٠٠ شخص بالانتحار، بما يعرف بأكبر عمليات الانتحار الجماعي.

الخلاصة

من المهم أن يقوم المسؤولون والمدراء والمعلمون وغيرهم في مكانهم بإعطاء مساحة للناس للتعبير عن رأيهم، خلق شعور بالأمان من الاختلاف بالرأي، إيجاد وسائل لسبر الرأي بخصوصية. ومن المهم أيضاً على الأفراد والموظفين والطلاب أن يعلموا أن السائد الظاهر قد لا يكون الغالبية الحق، وأن عليهم عدم الخوف من إبداء رأيهم، بالطبع آخذين بعين الاعتبار الجو المحيط والجماعة التي سيعارضونها، فقد ينتهي بهم الأمر معتقلين أو مقتولين.

ما تراه سائداً ومتفق عليه قد يكون غير مفضل لدى الأكثرية، ولكن الأكثرية لا يتكلمون.

للاستزادة

إذا أردت الاستزادة عن موضوع الغباوة الجماعية وفرض الزيف، يمكنك الاستماع إلى الحلقة ١٥٧ من برنامج الراديو You Are Not So Smart، الحلقة تحكي قصة معبد الناس والانتحار الجماعي، وتناقش الموضوع بتفاصيله مع عدة مختصين.

عبد الله دياب

أبحث عن اليقين في كل تفاصيل الحياة

أمستردام، هولندا

التعليقات باستخدام Disqus